في إحدى الشركات التي عملتُ بها جاء يومٌ واستلم إدارتها مديرٌ عام جديد عربي الجنسية لفترة وجيزة. وبحكم خبراته وشهاداته وقدراته الخارقة فقد قُلِّدَ من المناصب في الشركة مالم ينله العقيد القذافي في مجد قوته، ونالَ من الصلاحيات العظيمة ما لم ينله حتى فيدل كاسترو في مزرعته (كوبا).
وفي أولى مهامه بعد أن اعتلى كرسي الإدارة هي أن عقد اجتماعاً مع جميع الموظفين وبلا استثناء، وطرح أمامهم برنامجه الإصلاحي الشامل، واضعاً نصب عينيه القضاء على المحسوبيات ( أقارب المدراء )، وضبط الهدر العام، وإصلاح الترهل الإداري والمالي والتقني في الشركة وذلك لنقلها من العصر الحجري التي كانت تتخبَّط فيه إلى عصر الفضاء الذي لم تصله حتى الشركات اليابانية ( على حد تعبيره )، وجنَّدَ لدعم هذا البرناج الإصلاحي أحدث نظريات علم الإدارة التي خبرها وعمل في ظلها لسنوات مديدةٍ.
وأتى يوم تنفيذ هرطقاته تلك، فكان أول شيء عملي قام به هو أن نظَّم دورات المياه ( أعزكم الله ) في المكاتب، حيث جمع عمال النظافة أمامه وصفَّهم كالعساكر وأعطاهم تعليماته الصارمة بوجوب التنظيف اليومي، وضرورة الوجود الدائم للمناديل وسلة المهملات والكيس بداخلها، وأتتْ جحافلُ ورش الصيانة وأصلحتْ ما بحاجة لإصلاح، ومضى أسبوع كامل والجميع مشغول بدورات المياه تلك حتى أخذتْ شكلها الجديد والنظيف و( المريح ) وباتتْ وكأنها دورات مياه في فندق بعشرِ نجمات، وقام هذا المدير بتنظيم ورديات عملٍ بين عاملي النظافة للإشراف عليها، وحدَّد منطقة نفوذ ومسؤولية كل واحد منهم، ومن ثم علَّق جدولاً خلف كل بابٍ يحدد به النواقص في كل جولة يومية كان يقوم بها على دورات المياه، وربط هذا الجدول برواتب عمال النظافة، بحيث من نال النقطة السوداء على تقصيره فهذا يعني الخصم المالي من مرتبه نهاية الشهر.
في نهاية الأمر وبعد ستة أشهر قدَّم هذا المدير السوبرمان استقالته، ووزَّع تعويضاته المالية على الجمعيات الخيرية شكراً لله على نجاته من الجلطة القلبية والدماغية، وحمل أشياءه الخاصة من مكتبه وولَّى ذاهباً بغير رجعة بعد أن فشل فشلاً ذريعاً بزحزحة مراكز القوى حوله وإقحامها في دوامة الإصلاح، كما فشل بتصفية المحسوبيات والقضاء على بيروقراطية وروتينية العمل. إذ بانتْ ضآلته أمام من يفوقهم خبرةً وعلماً وفهماً ويعلوه نفوذاً، ولم يعرف كيف يضبط الهدر المالي العام في الشركة وقد سهر على أن يعرف ليالي طوال متفكراً ومتدبراً، وإن عرف فلم يجرؤ حتى على مجرد الإشارة إليه، هذا طبعاً غير إنه قد ابتلي بمرض السكر والضغط، وخسر نصف طنٍ من وزنه، وماخفي كان أعظم.
انهارتْ وعود برامجه الإصلاحة العظيمة تلك وباتتْ نسياً منسيا ومادة للتندر والفكاهة بيننا، بالضبط كما نتندر نحن اليوم على إن المواطن السوري موعود منذ نهاية الحرب العالمية الأولى بأن يكون صاحب الدخل الأعلى كونياً ( ليس عالمياً فربما هناك حياة على بعض المجرات ) بفضل وعود الإصلاح. وبقي في الشركة من إرث عهده الحافل بالوعود والأقوال نظام إدارة دورات المياه، حيث بقي العاملون هناك ملتزمين بتعليماته ونظام إدارته ذاك، وطبعاً باستثناء الجدول المشؤوم الذي ألغاه أحد عاملي النظافة الذي كان يتمتع بنفوذ لابأس به. وقد علَّق على كل هذا أحد الزملاء بقوله: الإصلاح يبدأ بالأهم ومن ثم المهم وليس العكس، والإصلاح عمل لاقول، وصاحبنا ( أي المدير المسكين ) إذ بدأ بأقذر مكانٍ لإصلاحه فقد علقَ به وخسر كل شيء.
وفي سوريا اليوم ترانا لانخرج أبداً عن طوق هذه النظرية البسيطة التي فلسفها زميلنا ذاك، فقد تناسينا كل مشكلاتنا الضخمة والعالقة في حياتنا منذ سنين مديدة ورحنا نناقش بعضنا باللين حيناً وبالصراخ أحياناً لنجد حلاً لمشكلةٍ أراها صغيرة جداً ألا وهي الزواج المدني الذي يدور حوله اليوم الجدل الواسع بين معظم أطياف الشعب السوري عامة، وبين فئة الشباب خاصة منهم.
الزواج المدني أحد أرقى نتاج تطبيق الفكر المدني والعَلماني على الدولة والمجتمع كما نأمل ونطمح، وهو يعكس مدى الوعي الراقي الذي وصل إليه الشعب بعد أن تخلَّص من عقده الدينية والمذهبية، نعم هذا حق يقال، ولكن هل انتهتْ كل مشاكلنا حتى لم يبقَ لنا إلا هذه الإشكالية الصغيرة لنتطاحن بالجدل حول جدواها من عدمها..؟، عن أي مشاكل أتحدث أنا..؟، وهل لدينا في سوريا مشاكل مستعصية لاسمح الله..؟، لا، فقد اكتمل بناء مجتمعنا السوري الأفلاطوني المثالي الذي رسمه أفلاطون في مدينته الفاضلة، ونحن لانعاني أبداً من تفكك اجتماعي ومناطقي وديني وطائفي ومذهبي أبداً، واقتصادنا ( خزاة العين عنو ) فحلٌ وصنديد !!!، ونسبة التعليم لدينا 105% وربما أكثر ونسبة الأمية لدينا عشرون تحت الصفر، وعقول وطننا الفذة لم تهاجرْ وتستقر في المغتربات وقد خسرناها، ورؤوس الأموال السورية لم تهربْ بعد ولم نخسرها، والفساد لانعرف ماهو ( شو يعني فساد..؟!! ) يسأل سائل على حد تعبير فيصول القاسم ( بالواو تصغيراً وتحقيراً )، ولاأزمة لدينا حرقتْ الأخضر واليابس، ولم تتكالبْ علينا شعوب الكون الصديقة والعدوة على حد سواء، وطاقاتنا البشرية مصانة ولم نهدرها، وشبابنا الواعد لايسقط كورق الشجر بقتال غبي، لم يبقَ لدينا أي مشكلة إلا مشكلة صغيرة جداً وهي الزواج المدني، لذلك دفنا رؤوسنا في رمادها، وها نحن نتجادل بصحتها وخطئها، والجدل البيزنطي يدوم ولاينتهي.
الزواج هو إعلان وتأطير ثقافي وتراثي للعلاقة الطبيعية الموجودة أصلاً بين الذكر والأنثى كضرورة للتكاثر وحفظ النوع، وباختلاف الشعوب ستختلف الثقافات والعادات والتقاليد حتماً، وبالتالي لن تستطيع أي سلطة أن تمسحَ من ذاكرة أي شعب ماورثه من سلفهِ وتجبره على أن يتبنى فكراً جديداً حتى ولو كان حضارياً ورائعاً كالزواج المدني.
وإن قصدتم بتطبيق هذا الزواج هو إزالة الفوارق بين أطياف المجتمع السوري فليس بالزواج وحده ستزول هذه الفوارق، بل بتعزيز شعور المواطنة، وتحويل ولاء الفرد من ولاءه لدينه ومذهبه وعشيرته إلى ولاءه للوطن الواحد وتحت راية واحدة، وتحويل هذا الولاء هو مشكلة المشاكل التي تناسيناها وباتَ أنفنا يتشمَّمُ المشاكل الصغيرة.
https://www.facebook.com/you.write.syrianews