news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
شتاتٌ .. وبقايا أرواح ...بقلم : جواد حمزة

ودنوتُ من الباب بعجلٍ ، قرعته وانتظرتُ المغيثَ بلهفةٍ وترقب ، البرد جمَّد يديَّ ، وشعري الطويل عبثت به رياح كانون الهوجاء فاستحال أشعثاً ككومة من القش اليابس ..
سماء ( حمص ) مكفهرة وسوداء ، غضبى هي وحُبلى بالألم والقهر منذ شهور قليلة مضت ، جلتُ بعينين مذعورتين حولي واشرأب عنقي نحو السماء فرأيت المغيب وقد وشَّح سوادها بلون برتقالي مرعب ولا أثر فيها لأي طائر أو حياة ..


قرعتُ الباب مرة ثانية وثالثة وآلمتْ يدي صلابته فتأوهتْ أعماقي قهراً وبرداً وجوعاً ، أعدت محاولتي وكنت بينما أنتظر الجواب أنفخُ أنفاسي بين كفيَّ فيسري بهما دفء لذيذ يدوم للحظات ثم يتلاشى ..
ضممتُ الطفلين إليَّ ولذتُ بالجدار بهما لوذَ حمامة تستشعر الدفء أنى يكن ، البرد تمكَّن من الوجنات الصغيرة الرقيقة فبدت شاحبة وكئيبة ، العيون كسلى ومرهقة ولا يتقد فيها إلا الخوف والذهول ، وأسمال بالية كسَت الأجساد النحيلة لتصدَّ بعضاً من برد صقيع لايرحم ..

لا استجابة من خلف الباب الأصم فعاودتُ قرعه بقوة أكبر ، وناديت بصوتي الضعيف المختنق ، وضربته برجلي مرات ومرات لعل من لايسمع أن يسمع ندائي ويلبي استغاثتي ويسند ضعفي ، فأتت محاولاتي خائبة ، يأستُ فافترشتُ الأرضَ وأسندتُ ظهري إلى الجدار خلفي وضممتُ الطفلين إلى صدري أكثر ..

- عطشان ..
توسلني أحدهما فألقمته زجاجة الماء حتى ارتوى ، تحسست يديهما فكانت باردة كلوح ثلج وقاسية كالخشب، ضممتهما وازددتُ انكماشاً عليهما لكي أعطيهما بعض ماعندي من دفء وبعض مالدي من حنان وأمان ..

نجونا من الموت مرات عديدة هذا اليوم ، ومنذ الصباح أجولُ بذعرٍ من مكان إلى آخر بحثاً عن من يغيثني ، وهذا الباب هو آخر ما أعرف في هذه المدينة ، كل من طرقتُ بابه كان قد هجره ونزح مع النازحين ولم أجد من يسعفُ ضعفي ويلملم شتاتي ويحمي طفليَّ من البرد والتشرد والجوع والخوف ، وقريبي خلف هذا الباب الموصد هو أملي الوحيد اليوم وإلا سيكون الشارع مأواي لليال أخرى وسيكون طعامي وطفليَّ مما جمعته من خرائب هذه المدينة المنكوبة ..

وأغمضت عينيَّ المرهقتين ، حاولت استحضار السكينة فنجحتُ وتسلل الخدر إلى جسمي ونفسي وغصت في أعماقي الموحشة ، هناك سطع نور المصباح الكبير في غرفة الجلوس في بيتي ، وانداحت موسيقى هادئة توحي بالكسل والاسترخاء ، شاهدت نباتاتي العزيزة تحيط بي كما لو كانت حديقة غنَّاء ، وباب الشرفة الكبير مفتوح لتبدو (حمص ) من خلفه كلوحة زيتية فائقة الجمال والنقاء والهدوء ومفعمة بالحب والحياة ، وكانت مائدتي الكبيرة تتوسط الغرفة وتزخر بصنوف مالذَّ وطاب من طعامي وحولها تجمهر الأحباب ، الكل يتحدث ويثرثر ويضحك ويبتسم ويأكل ، هذا أبي وتلك أمي وهؤلاء إخوتي ، وذاكَ الحبيب جالس في كرسيه وينفثُ دخان سجائره بكسل وخمول وسعادة ويحاورني بعينيه بحوار عذب تستطيب له روحي وتهيم فرحاً وسعادة ، لكن الآن أين هم..؟ .. أين ( حمص العدية ) وأين أنا ..؟ ..

أزيز رصاص متقطع أيقظني من حلمي ، وحولي يتراءى لي أشباح تركض وتختبأ وتتوارى في عتمة المساء ، وفي السماء بدت الغيوم سوداء وكأنها قطعان أبقار تجري على عجل هرباً من خوف يلاحقها ..

وهبط الليل الخريفي سريعاً ، وسريعاً غشا صمت ثقيل المكان حولي ، بعض المارة يركضون بسرعة يسابقون الموت المتربص بالجميع هنا ولايلتفتون لندائي الضعيف ، والكثير متواري خلف بابه يأكله الصمت كما الخوف ، أصوات أقدام قريبة مني نبَّهت بقايا روحي المهترئة وهيأتني للمواجهة ، اقترب صاحبها أكثر مني وبدا وكأنه يتلمس طريقه بحذر شديد ، ضممتُ الطفلين أكثر ولذتُ بالصمت والدموع تسفح خدي في عتمة الليل هذه

 

 كدت أن أصرخ أو حتى أن أبكي بصوت مرتفع لكن الخوف بداخلي جمَّد الحياة في حنجرتي وأخرس لساني ، سمعتُ صوت ( نحنحة ) خفيفة تلتها سعلة مكتومة فابتسمتُ وانفرجت أساريري بفرح ، فأنا أعرف هذا الصوت حق المعرفة ولاتخطأه أذناي المرهفتين ، ورآني ، وجفل مني خوفاً وكاد أن يهربَ لولا أني ناديته باسمه بصوت مخنوق ، فعاد وهرع نحوي مرحباً بصوت كفحيح الأفعى ويده تفتح الباب باضطراب وعصبية ..

لم يسأل وأنا لم أجب بأي شرح وقد بدا كل شيء واضح له ، دخلت البيت وغمرتني سعادة استباحت مابقي من دمع في المآقي ، وقفَ هو أمامي مطرقاً محزوناً يقاوم دمعه ويتركني لبكائي ونحيبي ليغسل قلبي ويجلو روحي ، وكان الصمت سيد الموقف بيننا في تلك الساعة ..

- لاعليكِ ، أنت وأطفالك في أمان الآن ، ادخلي الغرفة هذه حتى أوقد ناراً وأعد طعاماً ...

تلمس طريقه على ضوء ولاعته ،وأنا دخلت وانكفأت في إحدى الزوايا مع الطفلين ، سمعت صوت جلبة في المطبخ وشعرت بحرج أذابني في أعماقي ، لحظات مرت حتى عاد وقال لي بصوت منخفض :

- سأغيب لجلب الطعام ، فلاطعام عندي منذ أيام مضت ..

رفضتُ ذهابه وسط هذا الموت المنتشر في كل مكان ، فابتسم يطمأنني وقال :

- لاعليكِ فقد اعتدناه ، خذي راحتكِ فالبيت بيتك ، وأنا لن أتاخر ..

وغادر بيته متسللاً ومتلفتاً بحذر مماحوله ، خالجني شعور بالخوف والوحشة وبدت لي الجدران التي آوتني منذ قليل وقد أصبحت كألواح من الزبدة تذوب وتكشف ضعفي وقلة حيلتي ، ومن جديد ضممت الطفلين أليَّ ورحت أنفخ في كفي الدفء والأمان ..

هبط الليل ونام الأطفال وأنا كنت أتردد بين النوم واليقظة حتى تسلل ضوء الفجر من النوافذ وشقوق الجدران ..
وصاحب البيت لم يكن قد عاد بعد ...

2013-06-05
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد