هي سعيدة بعودته، بوجوده القريب البعيد، هي تعلم بأنه لم يعد إليها، لم يعد لأن نار الشوق حرقته كما فعلت بها، هي تعلم بأن الفقر والاغتراب هما ما أعاده إلى حضن الوطن الدافئ، ومع هذا استقبلته بباقة ورود وحضن حنون..
وضع حقائبه على الأرض، ارتمى على السرير، قرأت في عينيه اللامعتين وصمته المخيف آلاف المغامرات الهوليودية التي عاشها، تنهد ثم نظر إلي، لمحت في نظرته تساؤل لم أكن قادرة في تلك اللحظة على إجابته.
هل خنته ولو لمرة في كل ذلك الوقت الذي كان فيه بعيد، لا أعرف فتعريفي للخيانة متشدد بعض الشيء، لأنني أعتبر أن نظرة إعجاب لشخص آخر تحت ظل الارتباط هو خيانة، ومع هذا أجبت صمته بصمت، ثم في لحظة غضب صرحت له أنني خنته في أحد رواياتي.. ضحك على الإجابة، لقد اعتاد تصرفاتي المجنونة، لكنه لم يعتد يوماً صمتي وهذا أكثر شيء دعاه للتخوف وللتفكير بما فعلته في غيابه.
لقد كان يبدو تعب الاغتراب بادياً على ملامحه، وتعب العمل الذي صبغ بعض خصلات شعره بالأبيض ظاهراً بدرجة لا يمكن إنكارها. كنت أحاول إثارة غيرته كأننا تزوجنا للتو، لكنه مع الأسف كان قد فقد روح العاطفة كأنه مل من ليل الاشتياق، أو إن جاز التعبير تذوق نكهات كثيرة للحب ولم تعد حتى نكهة الاستقرار تغريه.
كنا ننام على طرفين متباعدين في السرير، كان كثير التقلب ولم يكن يغفو بسهولة، كنت أشعر به وهو يتنهد، ولكثرة المرات التي سمعت فيها أصوات أنفاسه المتصاعدة التي كانت تقاوم البكاء لكنني لم أتسلل يوماً إلى أحلامه فلم يكن التسلل إلى عالم الأحلام يوماَ يغويني..
ماذا خلف وراءه وندم عليه، ولماذا عاد اليوم وإلى ماذا عاد، من المؤكد أنه لم يعد إلى هذا السرير ولا إلى هذه الذكريات، ولا إلى هذه المساحة من المشاعر التي كانت تحتضر.. التي قتلها البعد بشتائه البارد، وخريفه برياحه العاتية. إذاً لماذا هو هنا اليوم؟!
علمت بعدها لماذا عاد، عاد بأحاسيسه المتجمدة ليحضر موتي البطيء، ذبول شبابي وتبعثر أوراقي، عدت بعد فترة للكتابة، لكنني كنت أتلف كل ما أكتبه، كنت خائفة من كل كلمة أخطوها من كل قصيدة أبوح له فيها بوجعي، أرثي فيها حبي له.. لكن ما قيمة المشاعر إن كانت تعيش على ارتواء الدموع لا المياه؟..
كان يدخل في مرحلة عميقة من الاكتئاب، كان غارقاً في عالم لم يكن لي فيه وجود، لا أعرف كيف اتخذت ذلك الخيار عنه، ذهبت إلى أحد مكاتب الطيران، وقمت بحجز رحلة وحيدة الوجهة إلى حيث قضى على مشاعره. أهديته التذكرة في ذكرى زواجنا العاشرة، عندما رآها برقت عينيه خوفاً وحزناً وفي ذات الوقت رأيت فيها فرحة أعمق من أن توصف.. عد إليها يا عزيز، عد إلى حيث وجدت نفسك، الاحتضار على ذكريات الماضي أصعب بكثير من الموت آلاف المرات في حضن الحاضر.. عد إليها فأنا لم أعد أعني إليك أكثر من زوجة وأم ..
لم ننفصل، ما زلنا زوجين .. مازلنا نملك ذات العنوان وذات الاسم، تردد كثيراً قبل أن يوافق .. تردد أمام عيني اللتين اغرورقتا بالدموع، حاولت أن أقتل الدمعة بابتسامة، لكن لم يفلح شيء أمام سقوطها.. سقطت الأندلس بعد ازدهار كبير.. وسقطت دموعي بعد حب كبير.. حب انتهى في اللحظة التي تناول فيها التذكرة وذهب ليوضب أمتعته..
لن يعود، أخبرت أطفالي هذه القصة المريعة، رمقوني بنظرة احتقار، نظرة كان فيه الكثير من العتب، حتى أمي التي لطالما وقفت بجانبي وشدت على يدي، لامتني على اتخاذ هذا الموقف المريع، وقف الجميع في وجهي، لكنني لم أكن لأقف يوماً في وجه من أحببت وكانت سعادتي يوماً مرتبطة بسعادته، ولطالما كان هذا المصير مرتبطاً بسعادته فيا مرحباً به.
ذهبت إلى المقاهي أتسول أمام نظرات الرجال عطفاً، ذهبت وكلي أمل بأن أعثر على حب يملئ فراغي العاطفي، لكنني بعد كل ذلك التعب استسلمت أخيراً لعش الزوجية، وعدت لأنام وحيدة على السرير، أعانق ذكريات الماضي .. ذكريات كان جمالها بأنها لن تعود..
https://www.facebook.com/you.write.syrianews