بــرلـيــن ـــــ
1- منذ أن طرح فرانسيس فوكوياما في التسعينيات فكرته القائلة بأن العالم قد وصل إلى نهاية التاريخ ، جعل هذا التاريخ العالم يحبس أنفاسه في ترقب . وجاءت هجمات الحادي عشر من أيلول الإرهابية في عام 2001 ، وصعود الصين كقوة عالمية جديدة ، وحروب البلقان ، والحرب في العراق وأفغانستان ، والأزمة المالية العالمية في عام 2008 ، و" الربيع العربي" ، والحرب الأهلية في سورية ، تكذب كلها رؤية فوكوياما في الانتصار الحتمي لقيم الديمقراطية الغربية . في الواقع ، يُمكن القول بأن التاريخ قد استدار دائرة كاملة في غضون ربع قرن من سقوط الشيوعية في أوروبا في عام 1989 لغاية تجدد المواجهة بين روسيا والغرب .
2- ولكننا نرى التاريخ في منطقة الشرق الأوسط بالذات وهو يعمل بشكل يومي مع النتائج الأكثر إثارة التي تتمخض عن ذلك . ومن الواضح أن الشرق الأوسط القديم ، الذي تشكل من بقايا الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى ، قـد بـدأ ينهار، وإلى حد كبير ، بسبب السياسة الأمريكية في هذه المنطقة المُعرضة للصراعات .
3- كان خطأ الولايات المتحدة الأساسي في المنطقة هو غزو العراق عام 2003 في عهد
الرئيس جورج دبليو بوش . وكان" المحافظون الجدد" في واشنطن في ذلك الوقت غافلون عن
الحاجة لملء فراغ السلطة في العراق والمنطقة بعد سقوط صدام . وشكل سحب الرئيس
أوباما للقوات العسكرية من هناك بشكل مبكر فشلاً أخر للولايات المتحدة في المنطقة .
4- إن
انسحاب أميركا من العراق ، الذي تزامن تقريباً مع
اندلاع الربيع العربي والحرب الأهلية في سورية ، وإستمرار موقفها السلبي تجاه
مسؤوليتها كقوة دولية في المحافظة على النظام الإقليمي في المنطقة ، يُهدد الآن بأن
يؤدي إلى تفكك العراق بسبب التقدم السريع لتنظيم داعش بما في ذلك الاستيلاء على
الموصل ثاني أكبر مدن البلاد . في الواقع ، مع سيطرة التنظيم على معظم المنطقة شمال
غرب بغداد ، تكون الحدود بين العراق وسورية قد تلاشت بشكل أساسي من الوجود . ويُمكن
للعديد من حدود بلدان الجوار أيضاً أن يُعاد الآن ترسيمها بالقـوة . كما ويبدو من
المؤكد أن الكارثة الإنسانية الحالية الواسعة النطاق ستصبح أسوأ مما هي عليه الآن
.
5- وفي حال نجاح تنظيم داعش في إنشاء كيان يُشبه الدولة فوق أجزاء من العراق وسورية
، فإن ذلك سيؤدي إلى تسارع تفكك المنطقة ، وإلى خسارة الولايات المتحدة في "حربها
العالمية ضد الإرهاب" ، وإلى تعرض السلام العالمي للخطر بشكل جدي . ولكن حتى بدون
وجود دولة داعش الارهابية ، يبقى الوضع في المنطقة غير مستقر للغاية لأن الحرب
الأهلية في سورية أظهرت أنها شديدة العدوى ويُمكن أن تنتقل بسهولة إلى بلدان الجوار
. في الواقع ، فإن كلمة "حرب أهلية " هي تسمية خاطئة لأن الأحداث هناك تنطوي منذ
فترة طويلة على صراع بين السعودية وإيران للهيمنة الإقليمية مدفوع بصراع قديم بين
الأغلبية السنية والأقلية الشيعية .
6- ويُشكل الأكراد عنصر عدم استقرار آخر من إرث الإمبراطورية العثمانية . وهم
موزعون بين العديد من دول الشرق الأوسط ـــــــ إيران ، والعراق ، وسورية ، وتركيا
ـــــــ ويُقاتلون منذ عقود من اجل اقامة كيان خاص بهم . ومع ذلك ، فقد أظهروا ضبط
نفس كبير في شمال العراق منذ سقوط صدام ، قانعين في المرحلة الراهنة ببناء إقليمهم
المستقل اقتصادياً وسياسياً ــــــــــــ إلى الحد الذي يجعله مستقل في كل شيء إلا
الاسم ، مع وجود جيش يتميز بالقوة والخبرة في ميليشيا البيشمركة .
7- إن تقدم تنظيم داعش والاستيلاء على الموصل قد حل الآن ، في ضربة واحدة ، جميع النزاعات الإقليمية بين الحكومة المركزية في بغداد والحكومة الإقليمية الكردية لصالح الأخيرة ، وخاصة فيما يتعلق بمدينة كركوك . فبعد تراجع الجيش العراقي ، قامت البيشمركة على الفور بالسيطرة على المدينة مما أعطى الأكراد في الشمال إحتياطي كبير من النفط والغاز. وعلاوة على ذلك ، فإن إيران وتركيا المجاورتين ، فضلاً عن الولايات المتحدة ، أصبحت كلها في حاجة ماسة إلى دعم البيشمركة ضد داعش . وبالتالي ، فقد فُتحت للأكراد نافذة فرصة غير متوقعة لتحقيق الاستقلال التام على الرغم من أن اعتمادهم على علاقات جيدة مع كل من تركيا وإيران للوصول إلى الأسواق العالمية سيخفف ، على الأقل في الوقت الراهن ، من طموحاتهم السياسية .
8- علاوة على ذلك ، فتحت الولايات المتحدة بغزوها للعراق الباب أمام الهيمنة
الإقليمية لإيران ، وشرعت في تحول مثير في تحالفاتها الإقليمية سيكون له على المدى
الطويل آثار عديدة أصبحت واضحة الآن بما في ذلك المفاوضات النووية الحالية مع
الحكومة الإيرانية . وتقاتل كل من الولايات المتحدة وإيران نفس الجهاديين الذين
يتلقون الدعم من حلفاء أميركا المفترضين في بلدان الخليج التي يحكمها السنة . وعلى
الرغم من أن كلاهما لا يزالان يُعارضان التعاون بشكل رسمي ، فإن بدايات ذلك قد بدأت
بالفعل بعدأن أصبحت المحادثات الثنائية المباشرة تجري بينهما بإنتظام .
9- ويبقى هنا سؤال رئيسي يتعلق بمستقبل الأردن الذي يلعب دور رئيسي في توازن
المنطقة ، وهو ما إذا كان هـذا البلد سينجو سالماً من التحولات الجيوسياسية الجارية
حالياً . وإذا لم يحدث ذلك ، يُمكن عندئذ أن ينهار بشكل كامل توازن القوى التقليدي
في المنطقة بين إسرائيل والفلسطينيين . وستكون النتائج على الأرجح بعيدة المدى يصعب
تقييمها الآن بشكل مسبق .
10- وتشكل هذه التطورات في منطقة الشرق الأوسط خطرين كبيرين على أوروبا . الأول خطر
عودة الجهاديين لبلدانهم وهم يهددون بتنفيذ عمليات إرهابية فيها . والثاني خطر
امتداد الأفكار المتطرفة لهؤلاء إلى مناطق في البلقان . وسيضطر الإتحاد الأوروبي ،
لحماية مصالح أعضائه ، أن يلتفت إلى بلدان جنوب شرق أوروبا بشكل أكبر بكثير مما
يفعله لغاية الآن . بروجيكت سنديكيت / معهد العلوم الإنسانية . 1-7-2014 .
https://www.facebook.com/you.write.syrianews