news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
بروفايل ــ إنسان بلا ظل على حافة السقوط ... بقلم : محمد نجدة شهيد

لم يـرث مروان عـن أبيه من صفات سوى الفقر. وما من مكان يذهب إليه إلا خرج له من يُعايره بذلك كأن دروب الفقر كانت مرسومة في باطن قدميه . وظل يحس بوطأة هذه اللعنة لسنوات إلى أن جاء به أبوه مثل جرادة صغيرة مقصوصة الأجنحة إلى المخزن الكبير الذي يعمل فيه وسط المدينة ، وطلب من مدير أحد الأقسام أن يعينه لديه كسائق .


وافق المدير على الطلب بعد أن رأى في مروان من النظرة الأولى ما رأى . وشعر مروان بأن باب حياة جديدة بدأ يتفتح له رويداً رويداً . كان بلا ظل وأصبح يقف في ظل باهت وقصير لإنسان آخر وهو يحمل في أعماقه جرح هذه اللعنة الذي لا يندمل .

 

عمل والد مروان لسنوات عديدة في مقسم المخزن ، وفي أماكن أخرى بعد انتهاء الدوام وخلال العطل الأسبوعية . يمضي كل وقته في اللهاث خلف لقمة العيش وهو يشعر بالندم على اليوم الذي يعيشه خائف من اليوم الآتي . كان بيته يقع بظاهر البلدة ويعيش على فتاتها .

 

 وكانت زوجته تساعده من خلال العمل في تنظيف البيوت ، وطهي الطعام للعمال الموسميين الذين تستقبلهم البلدة كل عام بلا ترحيب ويغادرونها بلا وداع . لم يجد هؤلاء في الطعام الذي تعده أم مروان أسوأ ولا أثقل منه على معدتهم . لكنها كانت بيضاء طويلة تتعرض للرجال بجمالها . ولا يقدر أحد أن يتجاهلها .

 

وهكذا كانا يُعودان مجهدين إلى البيت مع المغيب ، وبالكاد يكون أمامهما الوقت للإهتمام بالأولاد . وكانت أكثر أعمال أبو مروان رواجاً قيامه بالوساطة في تأجير الشقق المفروشة للمصطافين الذين كانوا يحرصون على السؤال عنه لدى وصولهم للبلدة لكون قائمة الخدمات الأخرى التي يقدمها مع الشقة تكاد تتضمن تقريباً كل شيء .

 

كانت أم مروان تقوم كل يوم بإيقاظ ولدها للذهاب للمدرسة قبل أن تغادر للعمل . وفي إحدى الأيام المُمطرة أرسلته كالمعتاد ، ووجد الولد مروان لدى وصوله باب المدرسة مغلق . فطرق الباب حيث فوجئ بوجه الآذن أبو سعيد الكئيب المنتفخ المحفور ببثور الجدري يُطل عليه من شباك غرفة الحراسة التي ينام فيها بجانب الباب . كان ذلك اليوم عطلة رسمية بمناسبة عيد المعلم . فتح أبو سعيد الباب وهو يبتسم ابتسامة زادت من دمامة وجهه ، وأدخل مروان للغرفة .

 

وقام على الفور بنزع صدرية مروان وثيابه الأخرى المبللة بالمطر بحجة تنشيفها على مدفأة يفرقع جمرُها شراراً . ثم أخذ يعبث به بعد أن دس في يده قطعة نقدية ظل ممسكاً بها حتى أنهى ما يريد . غادر مروان الغرفة وعاد إلى البيت بعد أن توقف في الطريق لشراء علبة هلاجوس . وهكذا انطفئت نجوم الأحلام والبراءة قبل أن تضاء في نفس مروان . وأصبح يكره المدرسة بل حتى يخاف من الذهاب إليها . يبتعد كل يوم عن المدرسة ويدخل في ذاته . ولم تعد به رغبة في أي شيء .

 

وبدأت الأم تجد صعوبة متزايدة في ايقاظه ودفعه للذهاب إلى المدرسة بدون أن تعرف السبب . وأصبح مروان قليل الكلام يظل صامتاً . كان يعاني حتى يتكلم . كما أختلف عليه نومه ، يظل يقظاً في فراشه المحشو بريش الغربان حتى تغار النجوم ويأتي الصباح .

 

كانت هناك رائحة مبهمة تغمر الغرفة المليئة بفئران تقرض خشب السقف طوال الليل . كان يهتز إذ تمسه ريح الشتاء ، ويدلف منه ماء المطر. أصبح مروان يمقت نفسه . ومع مرور الوقت أصبح يمقت أهله والناس أجمعين . لقد تركت هـذه التجربة القاسية في نفسه جرحاً عميقاً لم يندمل حتى مماته بعد أن اصيب بالجذام الذي أخذ يأكل ملامح وجهه الكئيب .

 

عاد مروان إلى البلاد بعد أن أمضى عشر سنين مع المدير في أحد فروع المخزن الخارجية . ولاحظ معظم الموظفون قيام مروان بتجاوز حجمه وامكانياته السطحية أثار الحيرة في النفوس ، واستعصى عليهم تفسير ذلك مما ترك المجال مفتوحاً أمام تكهنات مختلفة في الوقت الذي بدأ فيه المدير يترقى في المناصب حتى أصبح سيد نفسه وسيد الآخرين في المخزن .

 

وشكل خوض بعض الموظفين في هذا الموضوع وجعله سيرتهم المفضلة في جلساتهم ولقاءتهم إلى خلق مشاعر مختلطة في النفوس وصلت حد الكراهية لدرجة الحقـد . كان مروان طيلة هذه السنوات حاله مثل حال الطائر المكسور الجناحين يـدب متنقلاً بين الصخور ولكنه لا يستطيع أن يسبح محلقاً في الفضاء .

 

عندما تتبدد الفرحة كالفقاعات

أصر المدير على زواج مروان من فتاة تعمل أمها عنده في البيت كطباخة . وكان قد رآها مرة حين كانت ترافق أمها في بعض الأيام . استغرب الكثيرون إقدام مروان على هذه الخطوة خاصة وقد بلغ الحلقة الخامسة من العمر. البعض يؤكد أن هذا الزواج كان ورطة بدليل طول فترة الخطوبة التي امتدت لأكثر من ثلاثة سنوات .

 

كانت أحلام قصيرة نحيفة شاحبة بسيطة لا تهوى سوى أمنيات الحياة البسيطة . يكفيها من الأرض الجزء الذي تقف عليه ومن الليل الطويل مجرد حلم عابر. بـدأ يوم زفافها الأول بارداً وكئيباً . أحست أنه ربما يكون في حاجة إليها كما أنها في حاجة إلى ظل رجل . ولم تكن تعلم أن هذه الفرحة سوف تتبدد كالفقاعات . كانت أحلام امرأة غير حقيقيه بصورة من الصور. ومع ذلك كان جسدها في ليلة زواجها يتقلب على الفراش مثل النرد . تريد عن عبث أن تعطيه الإحساس بأنها امرأة فيها كل النساء . كان مروان كحيوان حرون حاولت طيلة الوقت ترويضه . كان دائماً زائع العينين كالأبله يداوم البحث عن أشياء لا وجود لها . ومع ذلك انقضى الليل بأكمله بدون أن يتمكن مروان من التحليق بأحلام التي أكدت لأهلها ، الذين سارعوا في الإتصال بها في اليوم التالي من ذيل الصباح للإطمئان ، أن كل الأمور تمام التمام !  

 

مر اليوم الثاني والثالث بطيئاً على هذا المنوال حتى أصبحت صورتها انعكاس لوجهه الأبله الصامت . واكتشفت أن مروان كان أكثر سوءاَ مما تصورته . فبدأت تهرب من وجهه تتعلل بأي شيئ حتى لا تراه . وأخذت تردد كلما آوت إلى فراشها تعويذات قديمة لم يسمعها أحد من قبل . وبدأت تعطيه أحاسيس متناقضة . تفتح شفتيها وتغلقهما في حركات متتابعة بشكل لا إرادي . لم يكن مروان يريد هذه الزوجة بل الزواج أصلاً . تزوج إمرأة لم يكن بينه وبينها أي مشاعر مرئية . كانت تتوسل إليه من خلال دموعها . اكتشف مروان أنها الوحيدة التي تشبهه .

 

فكر أن يقتلها وهو يضع أصابعة على عنقها . يضغط ويدمدم وعيونها تبحلق فيه باستغراب يخالطه شيئ من الرضىى كأنها رضيت بالموت سبيلاً للخلاص منه . وهكذا أخذت حلمها وانطوت عليه . لكنها ظلت تتأرجح لفترة طويلة بين الأحلام والواقع المرير الذي تستيقظ عليه كل يوم وهي تقول لنفسها من يعلم ماذا تخبئ الثياب . كم المظاهر خادعة . وفي أحد الايام استيقظ مروان في الصباح فلم يجدها بجانبه ! فأخذ يتعقبها أينما ذهبت . بدأت المسكينة حياتها بكذبة كبيرة إسمها مروان . رفض أن يطلقها حتى بعد أن أخذ جميع أموالها . وكان النصيب الأكبر في موتها لاحقاً يقع عليه عندما رفض أن يرفع عنها رداء لعنته واحترقت بداخله .

 

لماذا يكون القتل دائماً نهاية اللعبة في المخزن ؟

امتدت الآلام في حياة مروان مثل جسد خرافي بعرض الأيام والشهور والسنين . وتحولت اظافره إلى مخالب وأسنانه إلى أنياب قاطعة تنهش في أجساد الموظفين في المخزن بلا رحمة أو شفقة . للدم رائحة تغلب على كل ما عداها . كان يشمها في الطعام والشراب وفي بيت الشيطان المظلم . كانت دماء ضحاياه تفتح في داخله اغواراً عميقة فكان يرى كواكب مطفأة ونجوماً مندثرة وزهوراً ذابلة وعروق ملح .

 

أصبح عاجزاً كأنه هُزم طوال هذه السنين الماضية . وبدأ الصدأ يزحف على روحه . واستيقظت مخاوفة وتحول كل ما يراه ويسمعه إلى نبضات متواصلة من الألم . كان يمور في داخله ألم غامض . أين يذهب بكل هذه الأموال التي جمعها واحتواها من وجوه الحرام ؟ ولمن يتركها ؟ وهو يحس أخيراً بأن الوقت قد حان لكي يتحمل نصيبه من الألم .

 

 كان يعلم أنه وأمثاله لا يمكن أن يغادروا الدنيا بدون أن يتألموا . فاختار الطريق السهل وهرب من الحقائق كأنها أفاع سامة . هرب إلى داخل نفسه . وكانت كل احقاده التي ينفث عنها تعويض في الوهم . لا يحتاج الأمر إلى النفاذ خلف جلده لمعرفة حقيقته . كانت مشكلته بسيطة لكن جزءاً منها أن الآخرين لا يفهمونه لجهلهم بماضيه . كم تمنى أن يولد من جديد .

 

 

وبدلاً من أن يستعيد توازنه النفسي . أخذ قلبه ينبض بغيظ متأجج . وأصبح من المخيف تصور الأيام المقبلة . وكأن المخزن أصبح مقبرة واسعة وعلى الجميع أن يكونوا فيه موتى ! كان يثير الرثاء أكثر مما يثير السخرية . يحس بالعالم وهو يتغير حوله دون أن يملك القدرة على المشاركة . لم يتمكن من أن يطور نفسه أو يُحّسن وضعه قيد أنمله طيلة عقود من عمله في المخزن . وهكذا بقي وحيداً طيلة حياته إنسان بلا ظل إلا ظل المدير الباهت القصير.

 

حصل فوق ما كان يحلم به . جاءته الثروة حرام بحرام ، ثم جاء بعدها الخمول وتبعه السأم . كان عبد لا مبالاته  لجهله وضعف قدراته الذهنية . كان يختلف عن بقية الناس . كان لا يشبه بشيئ الرجال المنغمسين في هموم الحياة اليومية . كان لا يعنيه في هذا العالم الواسع المليئ بالمشاغل إلا النهم الشديد للطعام ، والجشع الكبير للمال الحرام . كان أنفه الكلبية تتبع آثار الطعام والمال الأسود في كل مكان . كلماته مبللة باللعاب . ولعابه ملون بالشراهة .  وشراهته بئر بلا قاع . كان أشعب في صورة من الصور نهض من قبره وسمى نفسه مروان .

 

انقشعت رائحة الجوع الثقيلة واستيقظ الحيوان الحرون في داخله . كان ضعفه الانساني أكثر ما يظهر حيال المال . كانت عيناه تطرف بنظرة الجوع المعتادة حين يرى مالاً . امتزجت في داخله مشاعر الضعف بالكراهية الطاغية . كان يشعر إنه مجرد عابر سبيل في حياة المخزن كمسافر يقف في ظل شجرة . كان يريد العالم كله بلا ثمن . من يستطيع أن يطفئ آلة الشراهة والطمع المتوقدة في داخله . كان يعتقد أنه يعيش وسط قطيع جائع فلماذا لا يكون ذئباً مثلهم . يعوي كما يعوون ويعود إلى بيت الشيطان المظلم كل يوم ملوث الأظافر بالدم .

 

لم يستطع مروان أن يطوع نفسه لهذا الأمان الخانق يبقى يأكل ويسمن وترتخي عضلاته ويكدس المال الأسود . كان ينزوي في غرفته يحدث نفسه بأمور شتى لعل هذا يخفف من احساسه بأشواك المهانة حول رأسه . واكسبته هذه العزلة نوعاً من الهبل وجعلت تصرفاته اشبه بالشراسة الحيوانية .

 

أصبح جسداً غير صالح لسكنى الروح شقي معذب خدع نفسه طويلاً بأنه في مأمن . تتفتح جراح قلبه كأخاديد الصخور. استطال شعره حتى غمر وجهه الكئيب . يدور كل يوم بجسده الضخم في أقسام المخزن كضبع جائع  يجوس خلال المقابر فاغر الفم مقصوم الظهر. كان يتوقف في بعض الأحيان أمام أحد المرايا ليقول لنفسه أنا أجبن الناس . أخاف الموت والسجن والجوع . كان جشعاً دنيء النفس كثير الشر قليل الخير بخيلاً .

 

 رث الهيئة فاسد الدين وما شاء أن تقول في إنسان من عيب إلا وجدته فيه . وغداً حتى النخاع . وجد نفسه يتحكم وحيداً وبقسوة بالغة في مصائر الناس في مخزن كبير وهو الذي لم يكن يحلم إلا بموطئ قدمية . عمل على الانتقام من كل الموظفين بلا إستثناء لدرجة التشفي . كان يرأى في البعض نفسه التي فشل في أن يكونها . وهنا كانت تكمن المشكلة .

 

كانت وحشيته تستيقظ من خلال فزع الآخرين . تغلل زهو الجاه في داخله واختلط مع عطشه المزمن للمال الذي أخذ يتدفق بوفرة بين يديه أدهش نفسه ومن حوله . يزهو كالطاووس . كان هو مروان الذي لم يتغير مريضاً بداء العظمة الفارغة متوقعاً أن يتضاءل الجميع أمام كلماته . غرق مروان في بيت الشيطان المظلم الذي يغيب فيه كل مساء وبدأ يسير داخل حلم غريب .

 

رأى في المنام كيف دفعوه بعنف حتى إنكفأ تحت قدمي أحد ضحاياه من موظفي المخزن . حاول أن ينهض لكن ضحية أخرى ركلته بقسوة . كانت وجوة ضحاياه الغاضبة شديدة القرب . كانوا يرتدون الأقنعة الملونة واثوابهم من ريش النعام يدقون العصي التي تنتهي بالجماجم . اقتربوا شقوا ثوبه ونزعوه عن بدنه وهم يدورون حوله ويدقون الأرض بالعصي فتهتز كل الجماجم . وانبعثت أدخنة البخور من أماكن مجهولة . كانوا يصرخون في وجهه بالتمائم والتعاويذ . ارتمى على الأرض فانهضوه رغماً عنه . حاول أن يستر عريه .

 

 وتحولت صرخاته إلى عواء بعد أن أمسك به أحدهم من كلتا يديه وقام بتثبيته على الأرض بقوة عندما إقترب منه آخر بشكل مفاجئ وأتاه كما تؤتى النساء . ظل مروان يصرخ حتى استيقظ . لم يكف مروان أبداً عن الحلم بمثل هذه الأحلام المهينة والغامضة منذ أن أعتبر نفسه سيد المخزن بالوكالة وشرع في الانتقام بشكل وحشي لدرجة التشفي من الموظفين .

 

كل هذا والمخزن يسبح في جو غريب من الامبالاة وربما العجز. فالبعض لزم مكتبه ولم يبدي أي رأي . والبعض الآخر أخذ يتطلع لما يحدث في بلاهة شديدة كأنه لا يرى . وظل نائب المدير العام يستمع إلى هذه التفاصيل اليومية ويُبدي دهشتة من تقلب الدهر. آخرون لم يكلفوا خاطرهم حتى بالاستفسار عن ما يجري . كان الجميع يعرفون حقيقة ما يجري ، لكنهم كانوا عاجزين عن التعامل مع هذا الواقع بما يلزم . كانوا يخشون المزيد من التهميش وربما أكثر من ذلك لو فعلوا . وهكذا تحولت نزوات الحقد والكراهية العمياء لدى مروان إلى اصرار وحشي للتدمير.

 

مروان والمدير .. اتبعه بدون وعي

 

لم يتعلم مروان شيئاً سوى الذي أراد أن يعلمه إياه المدير.. أن يكون طيعاً مثل عود الخيزران . ويبدو أن كل المصائر قد أعدت قبل أن يُولد مروان ليلتصق المدير به كوجهه الآخر. كان قدره الذي ترك بصماته على كل مراحل حياته . كأن المدير كان يُكمل له في داخله دورة الأوهام الخادعة . كان قدره الذي قدر له .

 

 استحوذ مروان على المدير بالكامل في المراحل الأخيرة من حياته . وأصبح بشراهته المعهودة يحيط به كديدان العلق . يريد مالاً وجاهاً وإن كانت قدراته لا تؤهله أو تمكنه من ذلك . يفرض حوله حصاراً ووصايا مختلفة . يريد أن يتصرف كأن المخزن قد أصبح إرث أبيه عامل المقسم . كان كل منهما يحمل للآخر كرهاً لا يهدأ . فمروان يشعر بأنه كان موضع استغلال كبير على مر السنين تحدق به المخاطر من كل جانب .

 

 كان مشروع كبش فداء في متناول اليد وقت الحاجة . والمدير يعتقد أن مروان لص كبير يستحوذ في آخر النهار على القسم الأكبر من المسروقات . كلاهما يحس بنذير النهاية ويشعر بمرارتها بعد أن أختزلا الحياة في أمرين اثنين : الأكل بنهم وشراهة مفرطة وجمع المال من وجوه الحرام بجشع بالغ حتى انتفخت الجيوب والكروش من الأمرين معاً لدرجة التخمة .

 

وهكذا ظل مروان حتى وفاته اسير ظل المدير الباهت القصير. فهل كان مجرد أخ كبير؟ أم كان بالنسبة له رمز لأشياء مجهولة ؟ أم هو رغبة غير طبيعية ؟ لا توجد اجابة محددة . اتبعه بدون وعي . أو لنقل اتبع الواحد منهما الآخر بدون وعي .  

 

الشمس لا تشرق من القبور

نبت زهر غريب في حديقة مروان شم فيه رائحة موته . أصيب بالجذام الذي أخذ يأكل ملامح وجهه المنتفخ الكئيب . البقع البنية السوداء لا ترحم .. تزحف وتنتشر. بدأ شعره يتحول إلى اللون الرمادي ثم يتساقط . والعضلات تتقلص . والهواء إذ يلمسه يغدو مسموماً . كان يقول لنفسه أنا أموت بعد أن بقي وحيداً معزولاً في بيت الشيطان المظلم ينتظر الموت البطيء وأطياف ضحاياه تملئ زوايا المكان ترمقه بعيونها الحادة .

 

كان البعض يأتون إليه من وقت لآخر ليضعوا بصمت ما يحملوه من طعام ويسرعون في المغادرة . كانت الرائحة المبهمة التي تنبعث منه تشكل لهم مشكلة كبيرة . وعندما يعودون كانوا يستحمون في اليوم أكثر من مرة  حتى أنهم باتوا يخافون من ملامسة الآخرين فاصبحوا أكثر منه عزلة وخوف . الحقد أكله الجذام مع الأوهام . كان يلفظ أنفاسه الملوثة وحيداً . كان في غاية القبح وبدت ملامحه غليظة مثل نعل قديم .

 

كانت براكين العذاب تفور في داخله . كان صدره يعلو وينخفض . كانت آلاف الحيوانات تركض في داخله وتمزق أحشاءه تدفعه حتى يعوي مثلها . يركض ويغرس أسنانه في أي شيء يقابله ككلب عقور. كانت كل الحيوانات في انتظاره كي ينتظم معها في عوائها الطويل . كان يسمع صراخ الطيور الحاد وهي تناديه من فوق حواف الصخور المسنونة ومن قيعان الأودية المحترقة ومن الآبار والينابيع الجافة حيث تموت الأوهام في وهج الظهيرة . يلاحقة الصوت الغريب في النهار كالنذير وفي الليل كالحلم . يتفصد جبينه بالعرق ويصرخ لا أريد أن أموت لا أريد أن أموت. كان يحس بريح الموت تهب من كل الجهات .

 

كان يموت ببطئ يسمع دبيب ملاك الموت يتبعه متخفياً خلف ستائر الخوف في بيت الشيطان المظلم يشحذ منجله في بطء . كان مروان يسمع صرير الشحذ الجاد كأنه كان يقرأ الآن لوحه المحفوظ . والتفت فرأى ظهر ملاك الموت وهو يشحذ منجله . رأه ينهض ويستدير ويقف أمامه . خيل إليه أنه يبتسم في لطف . تقدم ببطء ومس جبينه بطرف منجله وصرخ مروان صرخته الحبيسة المؤجلة . لم تنطفئ الشمس ولم تتناثر النجوم كما كان يعتقد بخياله المريض .

 

https://www.facebook.com/you.write.syrianews

2014-07-22
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
مساهمات أخرى للكاتب
المزيد