news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
مـروان مــات ... بقلم : محمد نجدة شهيد

اعتاد بعض الموظفون في المخزن الكبير تناول الغذاء في مطعم وسط المدينة . وفي إحدى المرات توقفوا بعد فترة من خروجهم عند أحد الأكشاك لشراء مياه غازية ، واشترى أحدهم صحيفة " الوطن" وأخذ يقلبها بين يديه وهو يسير بجوار رفاقه على رصيف الشارع . ووقع بصره فجأة في صفحة الاعلانات على نعوه بإسم يعرفه خير المعرفة .. مروان الفاضي* . وتملكته دهشة كبيرة ، وتوقف برهة وأنبأ رفاقه بالخبر لكنه لم يستطع أن يُكمل كلامه .


وساد صمت عميق وتعامل الجميع بالإشارة من شدة التأثر . فلم يكن مروان قد بلغ بعد من الكبر عتياً بل إنه يُعتبر في ثلثي العمر. وتناسوا الآلام التي سببها لهم ولعائلاتهم واحتسبوها عند الله يفعل بها وبه ما يشاء . وقرروا الذهاب للعزاء والمشاركة في تشييع الجنازة التي ستبدأ في اليوم التالي من داره في الحواكير الغربية بعد صلاة العصر، وبعدها تابعوا طريقهم بصمت نحو ساحة المدينة حيث يتفرقون .


وفي اليوم التالي قصدوا الشارع الذي يقع فيه بيت مروان ، ولم يصعب عليهم الاستدلال عليه بسبب صراخ النساء اللواتي ساقهن عبد الغفور لهذه الغاية ، ومعظمهن من العاملات في تنظيف طوابق المخزن ، وطباخات في جمعية حفظ النعمة في الحي . وجلسوا بين المعزين ومظاهر الحزن والأسى بادية على وجوههم في الوقت الذي كان فيه أحد الشيوخ القرّاء يتلو.. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ . عاقبة الظلم التي لم يحسب لها مروان أي حساب .

كلمة أصدقاء الفقيد :

وبعد فترة تقدم عبد الغفور يفسح الطريق ويقود أحد القادمين إلى الصف الأمامي في صالون الدار. كيف لا وقد كان المعزي مدير المخزن الكبير. أقبل يتهادى ويتمايل في مشيته في عظمة حزينة وكبرياء بها مسحة من أسى مصطنع . وقام غياس بإلقاء كلمة بإسم أصدقاء الفقيد قال فيها بصوت يُشرق بالدمع أن الفقيد كان بالنسبة له بمثابة الآخر والصديق .. اليوم بنودع صديق العمر بعد مسيرة ايمانية حافلة بخدماته الجليلة والجزيلة والبذل والعطاء اللي قدمه في كل ميادين الفضيلة . بنودع رجل فاضل شجاع ومعظمنا شاف كيف كان يركب الباص قبل ما يوقف .


وأنا بعرف كيف كان الفقيد مكرس كل وقته لخدمه أهل الحارة ونهضتها حتى انو ما حسن أو ما حدا ساعده أو شجعه أو خلاه يكمل دراسته ، ولا حتى يتزوج إلا في أواخر أيامه . وانهمرت في هذه الأثناء من عيني غياس دمعتين في غفلة منه وأصبح صوته مرتعش النبرات من شدة التأثر والانفعال .

ولازم نشكر القائمين على جمعية حفظ النعمة في الحي اللي هن كمان ما قصروا ابداً وكان المرحوم يحكيلي ويفضفضلي كتير وكان يقلي كيف كانوا يبعتوله عالبيت الكراتين ورا الكراتين متل مالكن شايفين اليوم ، وسمعته أكتر من مرة يقول الله يكتر خيرن وكيف من دونن ما كان بيحسن يستمر في حياة التقشف والزهد اللي اخذها على نفسه طواعية من شان يحس بمشاعر فقراء ومساكين الحي .


وأنا ما بحسن زكي حدا عند الله وبظن الأيام راح تكشف انو الفقيد كان كمان متل ضحاياه ضحية ناس آخرين ركبوه لآخر يوم لتحقيق غاياتن ومصالحن . ولو كانوا بيريدوله الخير كانوا أخذوا بإيده وساعدوه يكمل دراسته ويصير متل البشر. وفوق هادا كله حكي عليه بالطول والعرض حتى تبلدت مشاعره وما عاد يحس ويهمه شيء . صدقوني عند رب العالمين ما بيضيع شيء . المرحوم ظلم ناس كتيرين نعم هدا صحيح بس كمان هو انظلم بالحياة وحرام نظلمه كمان بعد الممات ولهيك بقولكن سامحوه كلكن وبعدين خلوا بينه وبين أرحم الراحمين .

وامرواناه !!

وبعد فترة من الوقت ، علا الصراخ إيذاناَ بخروج النعش من الدار لصلاة الجنازة في مسجد الحارة ، وتقدم عبد الغفور ليقود الحاج طاهر إلى مكانه في مقدمة المشيعين . وانطلق صراخ مروانة مدوياً وهي تكاد تقذف بنفسها من فوق شرفة الدار لتلحق بالنعش وهي تقول وامرواناه .. من لبراميل الكنتاكي من بعدك . وفجأة كفت المرأة عن الصراخ وشكل لها هذا المنظر في ذهنها نقطة ارتدادية استيقظت فيها أمور كثيرة دفينة في أعماق الذات .

فتذكرت طول فترة خطوبتها على مروان التي امتدت أكثر من 3 سنوات والإحراج الكبير الذي أصابها وأهلها بسبب ذلك أمام أقاربها والجيران في العمارة ، وكيف كان يقول لأهلها أن الشهادة ما بتهم في ذاتها بس بهالبلد هي مع الأسف الوسيلة الوحيدة المعترف بها للعمل ، وكيف كان بالظاهر عبيفكر وقتها كيف بدو يخلّص حالو منها ، وكيف كان يضحك عليها وعلى أهلها كل هالوقت ببعتانن كل سنة للحج مع وفد المخزن مع رفيقه غياس .

وكيف عطاها سيارة جديدة من كراج المخزن وسيارة تانية لأهلها مع دفاتر البنزين ، وكيف كان يبعتلن كراتين التواصي من الصفيحة وغيرها من مطعم الحجي عند البرلمان ، وبقايا طعام الدعوات الرسمية بصحون مغلفة بالنايلون ، وحتى باقات الورد لمين بيريدو في المناسبات ، وكيف وكيف وكله على حساب المخزن سرقة .. حرام بحرام .

وتحول بصرها فجأة إلى خروف يُذبح أمام النعش تقدمة مطعم بوز الحمل في الجزماتية ، وأخذت تصيح بلحام الحارة أبو كراع " عطي بالك على الفروة هااا وانت عبتسلخ الخروف بدي افرشها في الدهليز، ونضف لي كمان المصارين من شان السجقات كان محرمها علينا .. عيشه بتقرف الله لا يرويها لحدا " . كل هذا والنعش ما زال موضوع على الرصيف لا يحاول أحد التقدم لحمله .

وبدأ بعض المعزون يُعلنون آرائهم في مروان ، وأخذوا يقصون ما يعلموه عن سيئاته ورذائله التي كبلت روحه وهم يصبون عليه اللعنات الحارة والباردة في حين اندفع أحدهم يُلصق به كل ما يخطر على البال من جميل الصفات لو تجمعت في انسان لكان نبي ، ثم بدأوا بعدها يهربون تباعاً وفي مقدمتهم المدير العام وعبد الغفور الذي أكتشف بعد نزوله من سيارة الخدمة فقدان علاقة المفاتيح . وتذكر أنه كان يستعملها لفتح كراتين الصفيحة التي أرسلتها جمعية حفظ النعمة ، ولا بد أن يكون قد تركها على الطاولة وهو يقوم مع السائقين بتوزيع صحون الصفيحة على المعزين في صالون الدار .

وساد سكون مطبق على الدار والنعش مُلقى على الرصيف . وأصبح الشارع خال من المارة وحتى من الكلاب التي عانت بدورها بما يكفي على يدي مروان أيضاً بدون أن تعرف السبب عندما كان يُوشي بوجودها لدوريات البلدية المسلحة التي تجوب شوارع المنطقة المكشوفة على العراء بحثاً عنها . ولم يدرِي أحد ماذا يُمكن أن يكون مصير مروان وهل سيقضي نهايته على قارعة الطريق بدون أن يُصلي عليه أو يُشيعه أحد .


وخرجت مروانة إلى الشرفة من جديد لتطمئن على مصير الخروف وعلى الفروة والمصارين ، ففوجئت برؤية النعش على الرصيف في موضعه ثم صاحت تطلب المساعدة من الداخل ليُبعدوا النعش خشية أن يُفكر مروان في العودة إلى الدار.. وأخيراً وافق عمال تنظيفات الحارة لوردية الليل على ترحيل النعش بربطه خلف عربة جمع القمامة الصغيرة التي يعملون عليها بعد أن أعطت مروانة كل واحد مئتي ليرة وقطعة من لحم الخروف .

جنـازة تليق بصاحبها..غبـرة وقلة اعتبار

وكانت مقابر المدينة في ذلك اليوم قد اقفلت أبوابها منذ الصباح بعد أن علم أهلها بموت مروان ، وأكد بعضهم عزمهم منع دخول نعش مروان لئلا يُدنس تراب مرقدهم ولو بالقوة إذا أقتضى الأمر. وهكذا توجه عمال العربة وبأقصى سرعة نحو مقابر الصدقة المكشوفة في العـراء على أطراف المدينة القريبة من مكامن اللصوص أمثاله وكهوف الذئاب والكلاب الجائعة . في تلك الليلة كان هناك مطر غزير في غير موسمه ، وشيء في المكان يُوّلد لدى الإنسان الإحساس بالوحشة وسط عويل الذئاب ونباح الكلاب وفحيح الأفاعي .


وقام عمال العربة في ضوء النجوم الخافت بوضع الجثة في ظلمة أول قبر صادفوه . وأهالوا التراب على عجل فوق مروان ورذائله وهم يسمعون أصوات ونباح متواصل لكلاب جائعة حتى أنهم شعروا بالجوع لكثرة ما عـوت . فسارعوا في الخروج من حيث أتوا لا يلون على شيء حتى ابتلعتهم الظلمة بدون أن يُسووا القبر بالأرض .


وفي صباح اليوم التالي اشتعلت اقسام المخزن بشعلة من الزغاريد على سلامة الخلاص ، قرابة مئتي صوت من نساء المخزن اللواتي أحببن الحياة ورحابتها انطلقت مرة واحدة فارتج المخزن من أركانه . وبدأت ساعات ساحات المدينة تدق في منتصف النهار بلا توقف تعلن بدء تنزيلات موسم الصيف في المخزن ، في الوقت الذي انطلق فيه طائر الصدى في رحلة العودة إلى غابات الجبل الأسود بعد أن أدرك ثأره أخيراً ليروي من هناك قصة شخصية قلقة عابرة حجبت عن نفسها رحابة العالم وسعة الحياة فكانت مثل آثار الأقدام على رمال الشاطئ لا تلبث أن تمحوها الأمواج .


وهكذا انتهت أيام الحقد والظلم والقسوة في المخزن ، وزالت معها رائحة الكهوف ، والخوف العميق من الاقتلاع ، ومن نوبات مروان الجنونية . وعادت الحياة من جديد إلى سيرتها الأولى ، ومروان مُمدد وحيد في ظلمه القبر ووحشته ، يسمع نباح الكلاب الجائعة ، وقرع النعال فوق رأسه ، ويُسأل ولا يعرف كيف يُجيب .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مروان الفاضي : مستخدم بن مستخدم في المخزن الكبير. ظل يغط بهذه الصفة أكثر من ربع قرن . عانى من عقدة النقص لعدم حصوله على أي مؤهل علمي طيلة هذه الفترة . تحول في أواخر أيامه من مستخدم ــــــ أبو سطل ومكنسة ــــــ إلى معاون للمدير العام للمخزن بحكم الواقع . يقوم كل يوم باستفراغ عقلة السطحي في كيفية أذى الموظفين بدافع من الحقد والكراهية . كان يشعر بالخوف بشكل دائم كفأر مذعور وقع في مصيدة . أمضى أيامه الأخيرة ذاهلاً كالأبله . كئيباً كما هـو. رثـاً. كريه الرائحة . محطماً يبكي نفسه . أصيب بالجذام ومات حتف أنفه وحيداً منبوذاَ في بيت الشيطان المظلم .


https://www.facebook.com/you.write.syrianews

 

2014-11-01
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
مساهمات أخرى للكاتب
المزيد