news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
يا بصير ، يا بصير . بقلم : محمد نجدة شهيد

لم يكن أحد يأبه بإسمه ، أو يراه اصلاً . كان مروان أكثر ضآلة من أن يلاحظه أحد في مخزن كبير . كان قصير النظر ، ضعيف البصر . يهبط الدرج وهـو لا يدري أين يضع قدميه . يردد دائماً " يا بصير ، يا بصير" إلى أن اضمحل بصره تقريباً ، وعميت بصيرته تماماً . قالوا له يوماً ناصحين لا تكن أعمى فتحسب الآخرين عميان .
 


ورث عن أمه ضخامة الجسد ، لكن نفسه الغريرة كانت قاصرة عن مجاراة جسده . شغل نفسه طيلة حياته بجمع المال الأسود من مختلف وجوه الحرام . كانت عيناه تطرف بنظرة الجوع المعتادة حين يرى مالاً . لا تفوح من ثيابه سوى رائحة الطرقات ومن يديه رائحة الدم . أعتاد الابتعاد عن كل متعة حقيقية في حياته يتلذذ بالانتقام من الآخرين فقط ليعوض بذلك كل ما لديه من نوازع النقص .

كان كل شيء تقريباً متاحاً أمامه في المخزن ، ولكنه لم يدر ماذا يريد . يفكر دائماً متحسراً بالأيام الماضية التي قضاها بلا عمل وسط براميل الكنتاكي وعبوات الكولا العملاقة على حساب المخزن ، وهو يقول لنفسه ما اثقل الهواء . ما أقل ما أخذت وما أكثر ما أخذوا . ومع ذلك ، كانت ريح الخوف تتسلل إليه رغماً عنه . فكان يسير بحواس شاردة في الشوارع والساحات الخالية ، والطرقات غير المأهولة وهو يسمع من حوله عشرات الأصوات ، ثم يكتشف أنها كلها أصواته ، صوت قلبه ، وتنفسه وتدفق الدم في عروقه . يقف طويلاً أمام المحلات المظلمة يبحث فيها عـن أشياء لا وجود لها .

كان جائعاً ، وظل جائعاً حتى بعد أن تدفق المال الأسود بكثرة بين يديه الملوثتين . لم يغادر جسده وخز آلام الجوع والحرمان والبؤس ، أو ينسى شيئاً من أيام الجوع وليالي الخوف عندما كانت الأحلام تتحول إلى اشباح قاتمة فيشعر بالكراهية نحو ذاته ونحو الجميع . يستيقظ في منتصف الليل وهـو يصيح أنا جائع ، أنا ميت من الجوع . ولعله مات أخيراً جائعاً .

كوابيس دموية غامضة

رأى نفسه في المنام ذات ليلة يسير عبر ممرات طويلة ، هبط فوق سلالم زلقة ، ودخل إلى نفق مظلم ، شهق من الرعب . كان مدير المخزن في انتظاره ، ولم يكن باقياً منه إلا رأس معلق على رمح . انتفض من شدة الخوف كامرأة حبلى بالألم . عاوده الحلم مرة أخرى ، فرأى نفسه ينحدر رغماً عنه إلى واد لم يره من قبل ، هبط بين أشجار يابسة وأعشاب جافة . تلفت مفزوعاً ، رأى في انتظاره عـدد من الرجال في ثياب سوداء كالغربان .

 

 لم يميز ملامحهم .. ابتعدوا ، أنتم تخنقوني ، تمنعون عني الهواء . لكن دائرتهم الضخمة لم تتزحزح ، حجبت الضوء أيضاَ . وظلت الدائرة تضيق حتى أنه شم أنفاسهم اللزجة . أمسك احدهم بذراعه ، كأن أصابعه مخالب بارده انغرست في لحمه ، وقال له لماذا أتيت إذاً ؟ ولماذا لم يأتي معك قرينك المدير ؟ لو جاء لرأى منا أيضاَ ما يسره . هيـا . اخلع نعليك . وبعد أن انتهوا فقأوا عينيه وتركوه يخوض وحده في ظلمة الوادي . صرخ أين أنا ؟ أجابه الصدى أنت في وادي لوط .

الله كريم .. الله كريم

ذهب بصحبة زوجته أحلام إلى الشيخ الضرير أبو سراج وجلسا أمامه . حدق فيه الشيخ بعينيه الفارغتين ، وحرك أنفه كأنه يتعرف عليه من رائحته المبهمة . وأدار وجهه كأنه يراه ويقرأ ملامحه المتوترة . سأله أن يقص عليه ما يريد . فقالت أحلام بركاتك يا سيدنا .. بركاتك بدنا ولـد . فأجابها بصوت خفيض الله كريم الله كريم . كان يرقب في بلاهه شديدة الكلمات التي تخرج بصوت خافت من بين شفتي الشيخ الضرير وهو يردد التمائم والتعاويذ الغامضة .


قالت زوجته لنفسها لأن رزقني الله ولداً على يديه لأسميه كريم . طلب الشيخ الضرير من خادمته عطاف المتشحة بسواد الغربان أن تقدم لهما الشراب المعتاد . وعندما ساد الصمت وشعر أنهما غابا عن الوعي تلمس طريقة إلى أحلام . وبدأت الساعة الجدارية في الغرفة تدق بلا توقف محفزة كل غرائزه الوحشية . بقيت عطاف ترقبه بمشاعر مختلطة وهو يقترب بخفة من أحلام يتحسس جسدها وأنفاسها الدافئة باشتهاء . ورأت يده تنساب بخفوت وصمت إلى مواطنها الحميمة قبل أن يبدأ الزحف على جسدها ويُطبق رأسه الثقيل على أنفاسها . بدا جسدها مغطى بالجروح والخدوش .

لم تكن أحلام فيما يبدو قد غابت عن الوعي تماماً . لعلها لم تتناول كل ما قدم لها من الشراب خلاف مروان الذي كان شخيره يملأ المكان . كانت ترى سقف الغرفة يهتز وهي تسمع أنفاسه المتوترة وتشم رائحة زنخة تفوح من ثيابه كأنه اكتسبها من الغوص في لحم الأخريات . لم تغادر عطاف حتى ترددت في الغرفة أنفاس الانتهاء .

قلب ينبض في وهـن

كان يقف كل يوم في النافذة ويطل على ساحة المخزن دون أن يراه جيداً وهو يردد " يا بصير ، يا بصير" . كان المخزن كساحة موت مفتوحة لا توحي بأي أمان . يتحسس الأموال الحرام المكدسة بين يديه الملوثتين بدماء الآخرين لعلها تعطيه احساساً بقيمة الذات بدلاً من هواجس ذلك المستخدم الراقد في أعماقه .


وكانت النهاية مهينة وليست مأساوية حتى ذلك الحين تليق بمستخدم وغـد لئيم كان ينتقم من الموظفين لكل مرارات الفشل والأحلام المجهضة . يقترف كل هـذا والمدير الذي أطال البقاء صامت لأنه راغب خاصة بعد أن شاخ عقله وتثاقل ظله . وأصبح قلبه ينبض في وهـن . لوى ذيله أخيراً واسرع في الرحيل مطروداً إلى بيروت وهو يخفي خجله بين الذين ظلمهم كثيراً ، فلم يدر أحد أهـو أحق بالرثاء ، أم بالشماتة ؟ انتظر الجميع حتى يأتي هـذا اليوم وتهب نسمة عذبة من ناحية بردى فترتعش القلوب وتسود السكينة .

إلى من يأمن المرء في هذا الزمان ؟

وبعد مرور فترة قصيرة على رحيله المهين وجدوه مشنوقاً بحبل من مسد في قبو بيته وسط بيروت . جمعوا كل الشواذ والشحاذين واللصوص ، وكل من كان في صدره نقمة ، وله مظلمة في المخزن الكبير ويحلم بالخلاص . وبعدها أختفى الجسد ولم يعرفوا له طريق مثلما لم يعرفوا قاتله . فتشوا الدروب والمغارات والآبار والقبور المهجورة ، وحتى بيوت الخلاء . واقتفوا آثار الأقدام . لا وجود ولا شهود . وهكذا زال ظلم المستخدم مروان كأن لم يكن . قليل من الموظفين يصدقون أنه قابل للموت . لكنهم لن يعودوا بعد اليوم إلى حياة الخوف في المخزن . وسبحان من له الدوام .


ومثلما أختفى جسده ، أختفى ماله . أوليس المال الحرام يذهب هـو وأهله . لم يكن هناك أمام الجميع إلا الشك في المقربين منه ، وكانت المفاجأة عندما اعترف الجميع على الشيخ كربوج ، رجل المهام الخاصة ، الذي كان يتردد عليه في أوقات عديدة ومختلفة لترتيب مواعيد زياراته المتكررة إلى عيادة الشيخ شحتوت في خان دنون الأخصائي في إخراج العفاريت بمختلف أنواعها بتقنية جديدة استوردها من أوروبا ، وفي تحضير مختلف أنواع الحجابات كالتي يضعها مروان في ثنايا ثيابه المهلهلة وعلى رقبته الغليظة كرقبة الثور .


وضعوا الشيخ كربوج في السجن فلم يعترف . ضربوه وحلقوا لحيته ، فلم يعترف . تحمل الكثير وخرج بعد عدة سنوات من سجن عدرا يهمهم بكلمات غامضة تحكي عن تجربة السجن الصعبة ، ولا أحد يدري إن كان قد سرق النقود أم لا . ولكن لم تنقضي فترة طويلة على خروجه من السجن حتى شرع في بناء عيادة كبيرة خاصة به في خان دنون .


https://www.facebook.com/you.write.syrianews

2014-11-12
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
مساهمات أخرى للكاتب
المزيد