بعد أن كنت سابحاً في فضاء العدم , شاعراً باللاشيء , جاهلاً معنى الكيان و محبة المادة , بصقني الرحم المظلم إلى نور الحياة , فبكيت من شيء ما لم أكن أعرفه , كنت أبكي و الناس من حولي يضحكون , إنها أول لحظاتي في الحياة , إنها أول المأساة
مضت السنوات الأولى من عمري و أنا أعيش في ظل الحياة مغموراً بالمحبة و الحنان , شاعراً بالأمان الإلهي الذي يسكبه الله من عيون الآباء و الأمهات في قلوب الأبناء , دخلت المدرسة الإبتدائية و تعرفت على أول الأصدقاء , كان مفهومنا عن الحياة مختلفاً , كنا نراها باهية جميلة , و لم نر إلا محاسنها فلم نأبه للموت و لم نلتفت للهموم الدنيوية , كانت السعادة و البراءة بأسمى معانيها متجسدة فينا .
انتهت سنوات الابتدائية الجميلة و دخلنا المرحلة الإعدادية , و في هذه المرحلة تعرفت على الله عندما كان والدي يحدثني عنه و كانت أمي ترشدني إليه , كنت أصلي كل جمعة مع والدي في المسجد القريب , و فعلاً أحببت الله و آمنت به إيمان الأنبياء و الصالحين , لم يكن في قلبي ذرة من الشك , بل كنت أظن أن جميع البشر مؤمنين و موحدين , و في المدرسة كنا نتكلم عن كرة القدم و السيارات و حل الوظائف و مراجعة الدروس كنا قد نسينا الموت و ربما لم نكن نعرفه حتى .
و بعد تلك الفترة دخلت المرحلة الثانوية , , كنت شاباً يملك أحلاماً وردية و طموحات خيالية , درست كثيراً حتى تمكنت من الحصول على (البكالوريا) , و حتى هذه المرحلة لم أشك أبداً في حقيقية وجودي , كنت أؤمن أن المسلمين فقط من يملكون مفاتيح الجنة و أن باقي الأديان مصيرها النار , كنت أظن أن معظم البشر مسلمون و بأن المسلمين موحدون كالجسد الواحد , لذلك فقد كانت حياتي رائعة , و أصبح الموت يتردد أحياناً على خاطري لكني لم أكن أخاف منه مطلقاً لأني كنت مؤمناً .
و بعد دخولي الجامعة أصبحت أهوى القراءة و حصد المعلومات , كنت أريد معرفة كل شيء و يا ليتني لم أعرف أي شيء , تعرفت على طوائف المسلمين جميعها فصدمت عندما رأيت هذا الاختلاف الواضح في العقيدة فتساءلت : لماذا لم يحفظ ربي دينه الأسمى و صراطه المستقيم الذي أمر الناس باتباعه ؟ ..
ثم قرأت عن الإلحاد و البوذية و الزرادشتية و الهندوسية و اللاأدرية فأصبحت أشك ! , نعم أصبح ذلك الشعور القبيح الذي لم يكن يجرؤ على الاقتراب مني في السنوات الماضية يعبث بعقلي و يحرق فؤادي الشك كان شعوراً سيئاً خشيت أن يتحول إلى كفر و إلحاد , كانت التساؤلات ترهق عقلي و تطرد الكرى عن جفوني .. أصبحت أتساءل : ما ذنب البوذي في كونه بوذياً و الهندوسي في كونه هندوسياً و المسيحي في كونه مسيحياً ؟ .. لماذا لا يستجيب الله دعوات عباده المؤمنين الصالحين الذين وعدهم بالاستجابة ؟ .. لماذا ترك الله الشك يتسرب إلى قلبي بعد أن آمنت به إيماناً مطلقاً و هو الذي وعدني بالحفظ ؟ .. و مع ذلك مازلت متمسكاً بكوني مؤمن .
أنا الآن عمري تسعة عشر سنة , أنا شاب نشأ في هذا المجتمع العربي السوري , شاب خدع بمظاهر الأشياء و لم يلتفت إلى بواطن الأمور , أنا شاب عرف ماهية الأحلام التي تخالف الواقع و لا تحاكي المستقبل و عرف أن مصيرها إلى زوال إن اقترنت بالخير , أنا شاب أصبح هدفه الأسمى معرفة الحقيقة ؟
أنا شاب أصبح يعرف أن كلمة (لا) أقوى من كلمة (نعم) و بأن الشر هو أصل الناس و الخير هو الأمر العارض , أنا شاب كان مؤمناً و أصبح مؤمناً و يتمنى أن يبقى مؤمناً , أنا شاب كان لا يخاف الموت فأصبح الموت أعظم مخاوفه .
الآن عرفت لماذا بكيت عند الولادة , كنت أبكي خوفاً منك أيتها الحياة القاسية , كنت أبكي خوفاً من البشر المتوحشين و من تضارب الأديان و من خراب الأحلام . و لكني سأبكي أيضاً عند مفارقتك أيتها الحياة لأني أخشى الموت أكثر منك و لأني أخاف أن أتبخر في فضاء العدم .
هذه ليست قصتي أبداً بل هي قصتك أيها الإنسان إنها سيرتك التي تبدأ بالدموع و تنتهي بالدموع , إنها حقيقة إيمانك و كفرك , محبتك و كراهيتك , فصبراً أيها الإنسان لأن الموت سيخبرك بالحقيقة .