news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
لحظــة فـارقــة ... بقلم : محمد نجدة شهيد

كان مروان يريد أن يلفت الانتباه إلى وجوده في المخزن الكبير . كيف يقنع الآخرين أنه ليس مجرد مستخدم ؟ كان يفكر دائماً في أمنيته الوحيدة ، أن يكون واحداً من الذين يجلسون في الاجتماعات ، يتكلم ويناقش والناس ينصتون له بانتباه ، ويهز مدير المخزن رأسه الأشيب في إعجاب .
 


عندما شب أكتشف أنه فقير مثل أبيه الذي لن يترك لأولاده من بعده سوى الفقر والعوز .. إرث دائم لا يُستهلك . كان كل ما حوله يثير رعبه ، جوع دائم وخوف يتجدد . فبدأ يشعر بالكراهية نحو ذاته ونحو الجميع . كان حلمه في بداية حياته أن يتعلم ويعمل ويأكل من عرق جبينه ، ويجد مأوى بعيداً عن الغرف الصغيرة في حارات منزوية لا اسم لها .

ضاق بالفقر والعوز، ومن رقص المولوية في أعراس البلدة والبلدات المجاورة التي كان والده يُرسله إليها مع شقيقه الأكبر . كان عليه أن يبحث عن شيء آخر وحياة أخرى . لكنه واصل حياته وحيداً حتى قارب العشرين من عمره معتمداً على بقايا كل شيء .

أدرك أبوه بغريزته أن مروان لو تمكن من العمل مع مدير قسم الأرشيف في قبو المخزن الذي يعمل فيه ، فسوف يكون هذا انقاذاَ له من ورطة الفقر الدائم . وإلا لكان إلى يوم يبعثون من المهمشين الذين يعيشون على حافة المجتمع ولا حيلة لهم إلا العيش في الأحلام يتوهمون أشياء غير موجوده على أرض الواقع تساعدهم في تقبل مرارته .

كان مدير القسم رجل أكرش ظاهر القصر . %5 من عاملات الحوامل في المخزن كن يختبئن حين مروره لئلا تنطبع صورته في أذهانهن . عانى في حياته الكثير بعد أن تركته السنون أسير الظل مرات عديدة في المخزن . وعندما أصبح سيد المخزن أطلق كل شيء من عقاله وأعطى مروان فوق ما كان يحلم به حتى اعتقد أن النجوم المتوهجة أصبحت في متناول يده . وهكذا وجد هذا المستخدم نفسه يتحكم وحيداً وبقسوة بالغة في مصائر الموظفين في مخزن كبير بعد أن اعتبر نفسه سيد المخزن بالوكالة .

صار مروان يتوهم بخياله المريض أن الفرات يرتعد خوفاً منه ، وأن مياهه ستتوقف عن الجريان لو أراد . كثيرون في المخزن فضلوا بحكمه أن يُعانوا بصمت خشية أن يصيبهم المزيد من التهميش والإقصاء لدرجة الازدراء على يد من أصبح مستقبلهم ورائهم ولم يعد لديهم شيء يخشون خسارته .

لم يتمكن مروان لضعف قدراته الذهنية وانعدام المهارات الاجتماعية أن يحقق شيء في حياته طيلة عمله في المخزن . واصبحت تساوره عقدة النقص لعدم حصوله على أي مؤهل علمي ، ويمكن ملاحظة ذلك في جميع سلوكه وتصرفاته التي تعكس ما يعانيه في أعماقه من شعور بالفشل وعدم تمكنه من بناء نفسه كما فعل الآخرين . وهذا ما يفسر ، ضمن أمور أخرى تتضح لاحقاً ، سبب جنوح شخصيته المريضة إلى هذا المسار الوحشي ضد الموظفين الذين لم يجد غيرهم يصب عليهم شواظ غضبه لكل مرارات العجز والفشل والأحلام المجهضة .

كثيرون لم يعودوا من فروع المخزن الخارجية بعد انتهاء فترة خدمتهم بسبب ظله الثقيل وتحكمه المطلق وبشكل فاضح بشؤون المخزن الداخلية وهو مجرد مستخدم بن مستخدم لا يمكن أن يكون مؤهلاً لمثل هـذا العمل أو حتى غيره . العشرات طردهم من المخزن في نزوات الحقد والكراهية العمياء التي كانت تنتابه بين الحين والآخر والتي تحولت في الفترة الأخيرة إلى اصرار وحشي للتدمير . لم يدر مروان أن هذا اعطى ضحاياه طرف مشنقته .

حصـار بيت الشيطان
مرت أعوام كثيرة ثقيلة على وجوده وهو يُعيث فساداً في المخزن دون أن يتغير أي شيء حتى نسي الموظفون أن الزمن يمر. غاص اصابعه ببطء في لحم المخزن المستسلم . لقد تحملوا أكثر مما يستطيعون . كانوا يعرفون أنه لا يوجد من هو أحمق من مستخدم عندما يتحامق . كانوا يعرفونه جيداً ، أكثر الناس في المخزن شراً وألأمهم نفساً . فأسروا النجوى ، وقرروا أن مثله يجب أن لا يتحكم بعد اليوم بالمخزن وبمصائرهم .

سقط مروان أخلاقياً منذ سنوات منذ أن حقق مكاناً مرموقاً في قائمة لصوص المخزن ، وهم اليوم يريدون أن يسقط جسدياً . اتتهم أخيراً القدرة على تحدي مروان والإطار الكبير الواهي الذي وضع نفسه فيه . فظهروا فجأة أمام باب غرفته بيت الشيطان في زاوية الطابق السادس ، وفرضوا عليه حصاراً قاسياً استمر أيام طويلة أرغمه على أن يشرب بوله ، ومن يومها ورائحة النجاسة لا تفارق فمه . ثم بدأت تظهر على جلده بقع غريبة قاتمة كأنها ديدان رفيعة تمتد وتلتهم جلده الأبيض . وتفاقمت الحالة ، حتى أحس أن روحه تتآكل .


كانوا يريدون أن يرحل عنهم بطريقة أو بأخرى . قطعوا عنه الكهرباء ومنعوا عنه الطعام والشراب . وأصبح بيت الشيطان مثل اسطبل مزدحم بالروث ورائحة البول . كان ينام وهو متكوم حول نفسه ، خائف حتى في أثناء النوم . كان يحس أنه عريان مثل إناء في أحد الزوايا ، محاصر مكبل بالرعب كجرذ وقع في مصيده .

حاول دون جدوى أن يتخلص من إحساس الفزع الذي غمر جسده لإدراكه بأنهم لو أمسكوا به فسوف يطحنون جسده . كان يدرك تماماً أنهم سيقتلونه ولو بعد حين . سوف يأتون إليه ويذبحونه في وسط النهار وتحت ضوء الشمس . لم يفكر مروان أبداً طيلة أيام الحصار بالانتحار . كانت النافذة يمكن أن تحمل له الخلاص لو أراد . كان أكثر جبناً من أن يعاقب نفسه . كان يشعر في داخله بأنه حثالة وفكر أكثر من مرة أن يسلم نفسه خوفاً من القتل .


كانت كل الأشياء تبدو غير حقيقية في عتمة الغرفة المخنوقة الهواء . كان ضوء الشموع يرسم في الظلام حروفاً مجهولة كأنها حروف لمصير يبدو مخيفاً . وكان يقف على حواف نوافذ الغرفة صف من الغربان بين أصص يابسة لا هي تحلق ولا هي تنعق . كانت تريد فيما يبدو أن تشهد بصمت نهاية فصل من فصول الفساد في المخزن بطلها مستخدم لص وغـد حتى النخاع لم يتعب يوماً من سرقة الموظفين وسرقة مستقبل أبنائهم .


كان يعيش حالة من الرعب وأصبح لا يعرف ماذا يفعل ولا إلى أين يذهب بعد أن أصبح المخزن بعد كل هذه السنوات من الصمت والخوف يموج بحركة غير عادية .

 

لا يعرف كيف يربي طفلاً .
كان مروان طيلة فترة الحصار يعيش بين جدران غرفة الشيطان المظلمة في غيبوبة كاملة تتشابه فيها الأيام والليالي والرؤى والكوابيس المتتابعة . أخذوا يقذفون الباب بالأحجار وهم يصرخون : اخرج لنا أو نحرق الباب . كان يحس بأصواتهم تسري في عروقه قبل أن يسمعها بأذنيه تمنع عنه الراحة والاحساس بالأمان طيلة فترة الحصار.
 

خرج جامد الملامح ، شاحب الوجه ، كأنه خارج من جوف قبر . حدق فيهم دون أن يراهم . كان يضع الأفاعي بين ثيابه ، والنظارات السوداء على وجهه المستدير. لماذا يرتديها داخل بيت الشيطان المعتم ؟ وجدوا في ثنايا ثيابه المهلهلة التي تفوح منها رائحة البول حجابات مغلفة بصفائح معدنية رقيقة تقوي من الخصوبة ، وتقي من الحسد وأهوال العتمة ، وربما من تقلبات الزمان .
 

كان يرتعد كعادته في لحظة الضعف . أغمض عينيه لبرهة من شدة الضوء . كان شعره أصبح أطول قليلاً ، ولحيته غير محلوقة . وكذلك فإن ذيله أصبح أيضاً أطول قليلاً ولم يعد يستطيع إخفاءه بسهولة في سرواله المبلل بالبول . ثم بدأوا يصيحون غاضبين يقذفونه بالقاذورات والأحذية . كم لطمة أخذها على وجهه ؟ كم بصقة ؟
 

تمنى أن يفقد وعيه حتى لا يشعر بما يحدث له . كان على وشك البكاء : أتوسل إليكم .. ضعوني في السجن .. لا تقتلوني . مد أحدهم يده وجذبه من ثيابه ودفعه للسير أمامه ، اقدامه تضرب الأرض تمزق سكون الممر . قال لهم فجأة : أنا جوعان . كأنها رغبته الأخيرة . لم يكن الموت قريباً من مروان كما كان في مثل هذه اللحظات .
 

بدأ الضرب في الرأس . حاول مروان أن يحمي نفسه من سيل الضربات . استند إلى الجدار ليحمي نفسه من السقوط . كانت عيناه تدوران في محجريهما تومض ومضات الأمل الواهي في النجاة . قال في نفسه إن لم أمت الليلة فسوف أعيش طويلاً . كان يرى في البدء كل ما يحيط به غائماً بسبب الدموع التي تملآ عينيه . كم تمنى أن يتمكن من الهرب إلى شوارع المدينة ويندس بين جموع الناس ويذوب وسط الزحام . ثم بدأ يحس بألم شديد بلون أحمر يحجب الرؤيا عن عينيه . كان يوشك أن يسقط تحت الأقدام وأن يبول على نفسه من جديد .

قالوا له وفي عيونهم نظرات غريبة من المقت والاحتقار : ألا تشعر بما تفعل ؟ أنت تقضي على حياة الموظفين ومستقبل أولادهم . كل ولد منهم أمل أسرة وأمل وطن . أنت لا تفهم ذلك لأنك لا تعرف أصلاً كيف تربي طفلاً . هل تستطيع أن تقول لنا ماذا حققت من وراء كل ذلك ؟ لا يجب لأمثالك بعد اليوم أن يتحكموا في مصير الآخرين . أصبح الظلام أشد كثافة ، لم يعد يراهم . تمنى أن يقولون له كلمات المواساة الأخيرة ويغمضون عينيه .
 

توقع الكثيرون في المخزن أن يروه على هذه الصورة وأن تكون نهايته بهذه المهانة . أرادوا أن يروه في السجن ، في أشد حالات الإهانة قبل أن ينصبوا له مشنقة عالية تليق بلص وغـد على أقدم بوابات المدينة ، باب الجابية ، يعلقوه عليها ليراه كل الناس .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لحظـة فـارقـة . 3/2

كان وحيداً في بيت الشيطان لدرجة بعثت الرهبة داخل نفسه . أخذ يسترجع تفاصيل حياته اليومية بالصوت والرائحة والتي خلفت ورائها كدمات في وجهه وندوب في روحه . كانت بعض أحداثها محفورة في داخلة مثل جرح لا يندمل ...
 


https://www.facebook.com/you.write.syrianews
 

2015-02-21
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
مساهمات أخرى للكاتب
المزيد