ثم ظهر البحر وبدأ مروان يشعر بالنسيم البارد كأنه يد تحنو عليه أخيراً . كانت النجوم الملونة وطيور النورس تغسل نفسها في البحر . جلس على صخرة عالية وربع ساقيه دون أن ينطق بكلمة يحدق في الأفق البعيد . كانت أحلام اليقظة التي أدمن عليها في بيت الشيطان المعتم هي التعويض عن كل الآلام والأحلام المجهضة.
كم تمنى لو يستطيع أن يقرأ لوحه المحفوظ بعد أن
أيقن أخيراً أنه يُمكن للنشاز أن يهيمن حيناً في بعض مجالات الحياة ولكنه لن يصمد
للزمن ، وأن ما فعله لا يغتفر وعليه أن يتحمل العقاب . كانت حماقاته وظلمه حملاً
ينوء به ظهره . كان يعلم في قراره نفسه بأنه لص وضيع ونذل ، وفكر أكثر من مره أن
يسلم نفسه للشرطة خوفاً من الوقوع في يد ضحاياه . لكنه كان أجبن من أن يفكر
بالانتحار .
فكر أن يقذف بنفسه في البحر ليلتقطه الحوت الأسود ويلفظه من جديد بعد أربعين يوماً
ليعود كأنه ولد من جديد في أرض لم يطأها بشر . أو أن يعبر البحر إلى الجانب الآخر
من العالم لعله يجد هناك ملاذاً بعيداً عن الذين اصطلوا بظلمه وحماقاته لسنوات
عديدة ويتحينون الفرصة لذبحه أينما كان في وضح النهار .
عاش حياته بلا شرف ، سرق وغش وظلم وأكل السحت ، ولم يكن أمامه في نهاية المطاف إلا
الطرد المهين من المخزن بدون أن يتمكن المدير العام من حمايته ، وتركه يواجه مصيره
المحتوم بمفرده حاله في ذلك مثل حال بقية لصوص العالم بعد أن اكتشف أخيراً أن طمع
مروان ونهمه أشد وطأة من الطاعون ، فهو لا يقوم بسرقة المال من الموظفين ومن المخزن
فقط بل يقوم بسرقته أيضاً .
وأن الخطر الأكبر يأتي عندما تدق ساعة المساءلة وتنكشف أعداد الموظفين الذين ُطردوا
من المخزن بلا سبب ، والأموال التي تبخرت منه ووجدت طريقها إلى حسابات اللص مروان
في بلاد العام سام عن طريق الإيفاد المتكرر لأحد الوجوه المراوغة حوله خدم لسنوات
عديدة في فرع المخزن هناك كمحاسب .
جلس وهو يعبث بذيله ينتظر قدوم الحوت الأسود الذي كان يتثاءب في جوف بحر الأبدية .
سيأخذني في جوفه لمدة أربعين يوماً . لم يكن مروان يريد الموت . يريد أن يبتلعه
الحوت ويلفظه من جديد . استيقظ الحوت مفزوعاً من أعماق البحر . لكنه لم يكن يعرف
الطريق لبيروت .
أخذ مروان يبحث عن سفينة تنقله إلى دبي وسط مجموعات من الفقراء والمشردين والبؤساء
ومعذبي الأرض يجلسون بوجوه نحيلة مدبوغة تحت جسر قريب من رصيف البحر تفوح منه خليط
من روائح العفونة والأسماك الميته ونفايات الناس . كانوا مثل أبيه أشد الناس بؤساً
في بلدته يؤدي مهناً وضيعة . ويبدو ذلك واضحاً في هيئتهم الرثة وتصرفاتهم . كل صباح
يجلس الجميع في صف طويل بائس ، محني الرؤوس . هذا وقت مرور السادة أصحاب الأعمال .
يمرون في نفس المكان كل يوم ليأخذوا ما يحتاجونه من عمال بناء أو حمالين أو منظفي
حفر النفايات ، وكل أصناف المهن الوضيعة التي تحفل بها مدينة واسعة مثل بيروت . جلس
مروان بينهم برائحته الكريهة متعباً من شدة اليأس يريد أن يوفر نفقة الطريق .
وسرعان ما كانوا ينتقونه لضخامة جثته من بين الجميع .
عاصفة هوجاء
كان رُبّان السفينة صفوان منهمكاً في استكمال الخطوات الأخيرة قبل أن يُشرع في
رحلته الطويلة إلى دبي عبر بحر القلزم تستغرق أياماً طويلة بلياليها حيث يفرش القمر
ضوئه على صفحة البحر . أقترب منه مروان وهو يحمل متاعه من ألبسة وأغراض مستعملة كان
يلتقطها من شوارع المدينة . لم يلتفت إليه صفوان إلا بعد أن زكمت أنفه رائحته
الكريهة وكاد يُغمى عليه . كان مشغولاً بالجدال مع رجل وثلاثة نساء يقصدون مكة
لأداء العمرة ويحملون أكياس منتفخة تحوي بضائع مختلفة لبيعها في أسواق الحرم .
كان الرُبّان أرمنياً ذا لحية كثة حمراء . دفع مروان إلى قاع السفينة وهو يحبس
النفس حتى لا تتسرب تلك الرائحة الكريهة إلى أنفه ويختنق ، وكاد يلقي كيس متاعه في
البحر. نزل مروان الدرج المؤدي إلى قاع السفينة . هبت رائحة ثقيلة شبيهة برائحة
الخشب المتعفن والطحالب الميتة والقطران . أحس برغبة حارقة في البكاء بعد أن ظن أن
هذا قبره ونهاية حياته .
وعند الفجر ضربت المجادف الماء بعد أن استوى الناس على السفينة ، وابتعدت بيروت
والأرض ، ولم يبقى سوى النوارس . وبعدها سارت السفينة بهدوء وسط رياح مواتية ملأت
الأشرعة وزرقة صامتة كأنها تسبح إلى السماء . كانت الرحلة هادئة في معظمها . ولكن
في إحدى الأمسيات اهتز البحر وارتعشت السفينة . طلب الرُبّان من الجميع أن يعودوا
الى أماكنهم داخل السفينة لان هناك عاصفة على وشك الهبوب .
عندما فاحت رائحة الثأر
ظل مروان يقف على حافة السفينة في شرود . لسعه هواء العاصفة القادمة البارد . كان
مصاباً بدوار البحر والحنين إلى بيت الشيطان الذي أصبح خاوياً بلا أثاث ومعتماً لا
يُسمع فيه إلا دبيب الفئران ولا يُشم غير رائحة مروان الكريهة التي سكنت الجدران .
وعندما غاب في زاوية الذكريات الحزينة التي يغيب فيها كل مساء على حافة السفينة
كانت معه ذكرى المدير العام . منذ ولد والمدير العجوز هو قدره . أصبح الركن المظلم
الذي يؤويه وحدود عالمه وحلمه المتكرر.
تذكر كيف أصبح أسير بيت الشيطان المعتم في عذاب مقيم تحيط به بعض الوجوه المراوغة .
كان المخزن يحتضر ببطء حتى أن العفونة دبت في أقسامه وبدأت ريح السموم تدق أبوابه .
أعتقد ببلاهة أن كل شيء أصبح متاحاَ أمامه ولكنه لم يدر ماذا يريد . لقد استكبر في
نفسه وعتى عتواً كبيراً . كان يتمطى في شراهية مثل السرطان في فـرح فخـور . ويعيش
في ترف لا مثيل له . لم تكن به رغبة في عمل أي شيء بعد أن أصبحت السحب قريبة المنال
وبسط ظله الثقيل فوق كامل المخزن ، وكل هذا لم يكن كافياً ليعيد إليه توازنه
الداخلي . يسلب الموظفين أموالهم ويدمر مستقبلهم وينتزع جذورهم فلا يملكون سوى
الرحيل ، ويطرد من آثر السلامة والبقاء حفاظاً على لقمة العيش . كان يسمع تعاويذ
مجهولة وأصوات ترتفع بالدعاء عليه وعلى المدير العام .
كانت أظافره المتسخة تنغرس بوحشية بالغة في لحومهم . حقيقة واحدة لعلها تفسر، ضمن
أمور أخرى أتضحت لاحقاً ، سبب جنوحه إلى هذا المسار الوحشي ضد الآخرين وهي حقيقة
فشله المذري في تحقيق الذات في كافة المجالات . وقد ظهرت عليه علامات الغباء وضعف
القدرات الذهنية منذ الصغر عندما كان يُمضي معظم أوقات اللعب بثياب بالية في الحارة
وباحة المدرسة وهو يحاول كالأبله أن يخطو خارج ظله بعد أن يعقد في رجله اليمنى
رباطاَ ليعرفها به .
كان مروان يُعاني من صراع نفسي يرسم لوحة سوداوية على قسمات وجهه الكئيب بسبب تراكم
الشعور بهذا الفشل القاتل وبسبب المشاعر والاحاسيس المتناقضة التي تعتري أي حمار
آخر مثله عندما يلبس جلد نمر وينسى أن يغطي أذنيه الكبيرتين . لا يفارقه الإحساس
ليل نهار بأنه لم يكن مرجواً في المخزن في يوم من الأيام ، وبأنه سيخرج يوماً
طريداً منبوذاً وتصبح حياته فوق هذه الأرض تغريبة طويلة مضنية ، ولا يعود إلا جثة
ناقصة الأطراف بعد أن تنهشها كلاب الطريق .
كان واحداً من الذين يُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا ، ولا يرون أبعد من أنوفهم
وذواتهم . يخاف ، مثل المدير العام ، من اليوم ومن الغد لأنه غير واثق لا بهذا ولا
بذاك . واضطر الموظفون لكي يعوضوا فقدان العدل وإهمال الكفاءات في المخزن ، وتفادي
نوبات جنونه المتكررة إلى الابتعاد عن نقد الأخطاء صغيرة كانت أم كبيرة ، والقلة
القليلة إلى التدليس والنفاق ، وأحياناً السكوت عنها بل إظهار استحسانهم لها كي
يرضى عنهم هذا المستخدم المعاق الذي استحوذ على كل شيء في المخزن وفي مقدمتهم
المدير العام ، وأعطى لنفسه مهمات وصلاحيات أكبر منه لا يستطيع القيام بها حتى ولو
أراد لضعف إمكانياته وقدراته الذهنية . ابتلع دون أن يدري لقمة أكبر من طاقته وهجر
ذاكرته القديمة وعاش حلمه الزائف فلم يفيق منه الا على الموت .
أما آن لمطحنة الكراهية والانتقام أن تهدأ ؟
وهكذا أصيب الموظفون في المخزن بصدمتين معاً : الأولى هي الظلم في أحط صوره وأشكاله
، والثانية هي أنهم يدفعون ثمن هذا الظلم خضوعاً وخنوعاً واضطراراً للتدليس لكف أذى
هذا المستخدم المعاق . كان الجميع يُدركون أن مروان أصبح له قاموس خاص لكلمات
النفاق . وكان في موقف المدير العام الكثير من الرضا على هذا الوضع الذي لا يُرضي
أحداَ . كان يُبدي تجاه حماقات مروان نوعاً من السماحة البلهاء . كان على وجهه
دائماً ابتسامة راضية . أطاعه حتى أضاعه . وكانوا بدورهم يُظهرون الرضا بعد أن
أدركوا أنهم ازاء مجنون قد فقد عقله وظل يتصرف لآخر لحظة بنفس الحماقات . فأي جنون
أن يضعوا أنفسهم تحت أنياب ضبع جائع يأكل اللحوم نصف نيئة تركت الأيام في نفسه
كثيراً من الجروح . كانوا يريدون فجر جديد لم يبزغ بعد .
وأصبح خبر تحكم هذا المستخدم المعاق في كل شؤون المخزن بحجم المخزن نفسه واتسع
فأصبح بحجم المدينة . كان يغيب في بيت الشيطان المعتم كل مساء يبتعد عن الآخرين
ويدخل في ذاته . يتمتع ويأكل كما تأكل الأنعام . وكلما حاول أن يعود ليخرج من نفسه
وجدها كما كانت دائماً ... مستخدم معاق ترده اللقمة واللقمتان والملبي دوماً
لإشارات الأصابع . وأن اسمه لا يزال مروان بن أبيه . وهنا كانت تكمن المأساة . لم
يتمكن طيلة سنوات عديدة من تبديل نسبه أو جذوره . حاول أن يشطب نسبه القديم لينتسب
إلى الآخرين بأي طريقة بدون جدوى .
كان الموطفون يعرفون نهاية اللعبة بعد أن شاهدوا بداياتها حتى أنهم فتحوا له ثقباً
في أذنه لعله يسمع بعد أن أدركوا أنه انفصل تماماً عن الواقع يغيب كل يوم في بيت
الشيطان المعتم برغم الشمس والاضواء الباهرة . قالوا له مراراَ يا مروان يا أبو
خرطي لا تكن أعمى فتحسب كل الناس عميان يجب أن توقف حمام الدم الذي تغرق فيه بعد أن
اصبحت أظافره اشبه بالمخالب الجارحة . ولكن لا أحد يبالي بالنصائح عندما تتعارض مع
المصالح .
يركض .. ولا يصل
لم يبال مروان يوماً بنظرات الكراهية والاحتقار في عيون الموظفين في المخزن ، ولا
بالغضب المكتوم في النفوس . لم يكن يعول على محبة أو كراهية الموظفين ، أو على
شكرهم أو وعيدهم ، شيء واحد فقط كان يعول عليه ، مطلق وفريد ، هو الخوف من ضبع جائع
، تلك اللمعة المفاجئة التي تظهر في العيون . لكن نفس مروان لم تعرف طريقاً
للاستقرار طيلة سنوات طويلة ، ظل يركض عشر سنوات دون أن يصل إلى السكينة والطمأنينة
. أصبح مدمناً للإحساس بالقوة المطلقة الذي تمنحها له لحظة القتل ، القدرة على
التحكم في المصائر ، وضع نهايات الخلق . لكنه كان يدرك بشكل غامض أن النهاية قادمة
. نهاية مهينة وربما مأساوية ، لمسه أخيرة على جرح مليء بالملح .
كان مروان واحداً من الذين خاب سعيهم في الحياة وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً .
وقف يوماً في المرآة وهو يرى تلك النظرة الجائعة في عينيه ، وسأل نفسه لماذا
يكرهونني ؟ ومن أنا ليحسدوني ؟ من أنا بالضبط : أحمق فاشل خاب سعيه في الحياة ،
منبوذ من أهله ومن حوله ، لص وضيع ، قاطع طريق مستقبل الموظفين وقوت عائلاتهم ، أم
خليط من كل هؤلاء ؟ كان يقرأ ما داخل نفسه . يرى روحه المتعبة القلقة المأسورة
للدرهم والدينار وهي تتوجس خوفاً وتوشك أن تقوده للانتحار . كان كراكب النمر ،
الناس تهابه وهو أدرى بما به . إن ربك لبالمرصاد .
وبعد أن أخذت الأحداث الصغيرة تتجمع في المخزن الكبير حاصر الموظفون مروان في بيت
الشيطان المعتم الذي حبسوه فيه . كان مروان خائفاَ ، ولكنهم لم يكونوا خائفين . كان
القمر يفرد نوره وينام على بوابات المدينة العتيقة . وكانت نجوم السماء بعيده ،
متألقة غير خائفة . هاجموه بكل مرارة العذابات التي سببها لهم ولعائلاتهم وبكل قوة
الظلم الذي اصطلوا به . لم يهنوا لما اصابهم وما ضعفوا وما استكانوا . كانت طاقة
الغضب تعم المخزن كله . خاضوا معركتهم بلا تراجع . وواجهوا اللص مروان في أوج
غطرسته وحماقاته .
أخذ المخزن يمور بالغضب . هاجموه كالنسور الجائعة وهم يرون صفرة وجهه والعرق الذي
يكسوه . كان المستخدم الرابض في داخله يجعله غير قادر على أن يصد ضفدعة . أرادوا أن
يتركوه مثخناً بالجراح حتى تزداد درجة عذابه . كانوا يتوقون لأن يُطرد ويُحاسب على
سرقاته وحماقاته ، ولو حدث ذلك فسوف ينعدل ميزان الكون .
تذكر يومها كيف غرق في غيبوبة جديدة تتداخل فيها صيحات الموظفين وصور المدير العام
الذي كان يرقد فوق فراش مرضه الأخير وقد جفت مياه الحياة من بدنه ، ولم يعد في
انتظاره إلا القبر وعذاباته ، وكيف بدأ قبل منتصف الليل بقليل يجمع حوائجه
ومسروقاته من بيت الشيطان المعتم وهو يحاول دفع مشاعر التخاذل التي يحس بها في
أعماقه . وكيف دفعوه بعد أن أفرغ ما في بطنه وسار في طريق الخروج يجر ورائه ذيله
ويحمل على ظهره حصته من المسروقات وأوزار الناس . كان جسده يرتجف من التوجس والخوف
والترقب .
كانوا في انتظاره الذين اهانهم وألقى الرعب في قلوبهم ، كانوا يسدون طريقه بوجوههم
المليئة بالكبرياء وعزة النفس التي لم تقتلها سنوات الظلم والقهر . كان يرى في كل
عيون الموظفين والحراس نظرات الازدراء والاحتقار ويسمع في كل كلمة اهانة خفية . كان
ينظر إليهم نظر المغشي عليه من الموت . وهاهي النهاية مثل كف مفتوح مرسوم عليه
الماضي والحاضر والمستقبل بعد أن تغلغل زهو التملك في داخله وأخذ عطشه للدم يزداد
يوماً بعد يوم . كيف استدار الزمن وتحول أشهر لص في المخزن الكبير إلى فأر مذعور
يُساق إلى حتفه . كيف انقلب الحلم المزيف إلى كابوس ؟ وأي كابوس هذا الذي لا ينتهي؟
لم يكن هناك من ينقذه . كيف تركه المدير العام لهذه الدرجة من الضعف والهوان ؟
كان مروان جائعاً وسيظل جائعاً ، انتهت أيام الشدة ولم يغادر جسده وخز آلام الجوع .
يستيقظ في منتصف الليل وهو يصيح : أنا جائع أنا ميت من الجوع . ولكن ما أن يأكل
لقمة أو لقمتين حتى يتقلص بطنه ويحتقن وجهه ويتقيأ كل شيء . يظل يتلوى من ألم الجوع
في بيت الشيطان المعتم حتى تأتيه أطباق الطعام المجانية على حساب الآخرين أو المخزن
. كانت هي اللقيمات الوحيدة التي تتقبلها معدته وتستقر في بطنه.
كثيرون كانوا يعرفون أن مروان سوف يقع في هذا الخطأ القاتل من اللحظة التي فاحت
فيها رائحة الثأر في المخزن مع قدوم المدير العام الأكرش الجديد القديم الذي بدا
لهم منه ما لم يكونوا يحتسبون . كان من الخبث ، أو ربما من الجبن ، بحيث لم يرد
بنفسه على تلك الأقاويل التي كانت تطاله منذ عقود من الزمن بسبب علاقته المبهمة
المثيرة للشكوك مع مروان خاصة وأن سمعتة لم تكن يوماَ في منأى عن الظن والتأويل .
جاء رده من خلال مروان نفسه المستخدم المعاق أطلقه كحمار جامح بعد أن ألبسه جلد نمر
يُشبع الموظفين رفساً ولطشاَ . وهنا لا بد من القفز إلى أدوات التحليل النفسي لفهم
طبيعة هذه العلاقة من جميع جوانبها لو أردنا ذلك .
أولا أأخذ نصيبي منه
وجاءت الريح عاصفة هوجاء وصلت ماء بسماء . أنزل الرُبّان صفوان الصاري وأمسك
مساعدوه المجادف يقاومون الموج الغاضب والموت بهم طاف . وفجأة ظهر أمام مروان أحد
صغار البحارة الذي كان يزفر أنفاسه في غيظ ووجهه غاضب من فرط احتقانه أصبح قرمزياً
وهوى على وجهه بلطمة قوية ثم انصرف مسرعاً . استيقظ مروان من غيبوبته وأمسك خده
الملتهب ، واسرع واسع الخطى كأنه يريد أن يخفيه عن الجميع . وهبط مسرعاً إلى داخل
السفينة .
كان مروان يسير كل ليلة بين ممرات قمر السفينة يسترق السمع ، يسمع حفيف الأنفاس
الغامضة . ورأى النساء الثلاثة كيف كانت كل واحدة منهن تذهب إلى غرفة الرُبّان
صفوان لقضاء الليل حتى الصباح . فقال في نفسه أولا أأخذ نصيبي منه . كان مصاباً
بتشوه سلوكي واخلاقي وتتضرم في أعماقه شهقات مخنوقة . وكان الرُبّان يثير في داخله
الرهبة والشهوة . صعد إليه وطرق الباب . وعندما فتح صفوان الباب قال له أنا مروان
.. جوعان رح أموت من الجوع . كان وجهه جائعاَ وشاحباَ يكسوه العرق . نظر إليه صفوان
ملياً وردد الاسم في ذاكرته ، فلم يجد له صدى ... وفي الصباح أشار صفوان إلى مروان
فحمل كيسه وأنزله في قمرة ضيقة ولكنها كانت أفضل من مراقبة الجرذان في قاع السفينة
. وأخذ يتعمد أن يُهينه علانية كل يوم أمام البحارة وأهل السفينة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رحلة مروان إلى الموت (5) . وصل مروان إلى دبي وعاد ليسكن في غرف صغيرة ملحقة بأسطح
الأبنية في حارات منزوية لا اسم لها . وأخذ يعيش في عذاب مقيم يُلهيه الأمل في
العودة والانتقام من جديد ...
https://www.facebook.com/you.write.syrianews/?fref=ts