أنّى له أن يخترع!... ذاك المواطن المعتّر, الذي تقاعد عن الاختراع منذ زمن أجداده العظماء.. وترك ذلك البطر الحضاري لأبناء اليابان والصين وأوروبا وغيرهم.. إذ أنَّ هناك همٌّ يشغل باله أكبر من أن يكون بطراناً ويخترع!

ألم يتساءل أحدكم لماذا يتحفنا اليابانيون, على سبيل المثال, كل يوم بإختراعاتهم واكتشافاتهم المذهلة.. وتختفي تلك العبقرية عندنا, نحن شعوب العالم الثالث!... بالطبع سوف يتحفوننا.. إذ ليس لديهم ما يؤرقهم من مشاكل.. دراستهم جيدة وعملهم ممتاز, مجتمعهم منظم ومتعاون.. فلماذا لا يخترعون ويكتشفون!

إذ أنَّ الاستقرار المادي والمعنوي يعطيك راحة نفسية يجعلك تفكر بأشياء أخرى... فتلتفت للحياة وتتفكر فيها وتبدأ تلك الأجزاء الدماغية المتخصصة بالعبقرية بالعمل وتخترع ما تتخيل... والتنظيم المريح والمُجدي بين العمل والأسرة يعطيك فرصة أكبر لتخرج من صندوق بيتك وتكتشف..

أما المواطن عندنا, يُشغل تلك  الأجزاء الدماغية المتخصصة بالعبقرية  بأمور أخرى.. هي عنده أولويات ومسؤوليات ليس بيده التخلص منها.

وكما أنّ أفق الياباني وحدود خياله هي العالم بأسره والكون و المجرات.. فإن حدود مواطننا المسكين هي الرقم 30 من الشهر, ليس لأنه محدود التفكير والخيال..أو أنه أغبى من الياباني.. بل لأن ذلك فعلاً ما يجب القيام به كأي إنسان لاستمرار عيشه وضمان بقاءه بصحته, فيذهب به خياله إلى نوع آخر من الاكتشافات والاختراعات.

هو مشغول بأن يخترع طريقة لتقسيم راتبه على أيام الشهر.. فإذا أخذنا 15 ألف أو حتى 20 ألف ل.س كحد لراتب موظف عادي, فإنك ستجد ذلك الموظف يحاول تقسيمه على عدد أيام شهره, والتقسيم كما تعلم من علم الرياضيات!

ولكن لدى الموظف, 15 لا تقبل القسمة على 30 . لا تسألني لماذا وكيف.. إنها لا تقبل القسمة وحسب!.. هكذا اكتشف الموظف.

هو مشغول بأن يكتشف طريقة للوصول إلى جامعته أو عمله بأقل عدد سرافيس و تكاسي ممكنة وبأقل كلفة ممكنة. إذ أن خطوط مدينته أعقد من خطوط وأعصاب الدماغ الإنساني.. فكيف له أن يحلها!

هو مشغول بأن يكتشف محل ما يشتري  حاجاته الأساسية منه بسعر الجملة... يدور ويفكر ويبحث في كل الأرجاء حتى يكتشف أنَّ محلاً في شارع منسي هو مبتغاه.

هو مشغول بإدخار شيء لدفع أقساطه أو ديونه... من قسط بيت أو سيارة أو أدوات كهربائية أو لا أدري ماذا   من دون أن يأخذ هو قسط ... قسط من الراحة!.

هو مشغول باختراع أكلة من الذي بقي في براده... فتظهر مواهب الشيف رمزي ويخترع أطباق جديدة غير معترف عليها عالمياً ولا محلياً حتى... ولكن الحاجة أم الاختراع.

هو مشغول بدفع فواتير اختراعات جديدة اخترعها غيره... من المصباح ... إلى الموبايل.

وعلى الرغم من أنّه مشغول... مشغول.. فهو يبقى خبير اقتصاد ورياضيات... وعالم اجتماع, يبقى طبيب نفسه ومحامي حقوقه.

ولكن كيف يخترع ويكتشف... وهو ليس مهيئاً لذلك من صغره.. من مدرسته.

إذ أنَّ المدرسة علمتنا   ماذا " نفكر ولم تعلمنا   كيف   نفكر. لم تزرع فينا روح الاكتشاف والجرأة في طرح الأفكار حتى ولو كانت غريبة, وإن صَدَفَ ونبتت برأسك فكرة عبقرية يسارعون باقتلاعها بقولهم:  شو جنّيت! خرّفت...  دي اسكوت اسكوت وبلا خزعبلات...  ولكن أسوأ كلمة يقولها الناس لك هي   مستحيل  . كل شيء لا يعرفونه ولم يعتادوا سماعه هو مستحيل!.

إن قلت لأحد قبل 100 عام مثلاً أنّه يمكنك سماع صوت شخص آخر و التحدث إليه و لو كان على الجهة المقابلة للعالم عبر جهاز صغير غير موصول بشيء... لقال أنك مجنون وأن الأمر مستحيل, في حين أنَّ هذا الشيء الآن هو من أبسط الأمور الحياتية والعادية لدينا.

لم يخترع ويكتشف ذاك الموطن البسيط... ليس لأنه لا يزال يعتقد أنَّ كل شيء مستحيل بل لأنه لا يخطر على باله أن يبدع لأنه مشغول... مشغول...

ليس لأنه ضيق التفكير... بل لأنه ضيق الجيب... وضيق الحيلة على هذا الجيب!.