جولة في محيط مدينة دمشق وبعض أحيائها ستثير الإحباط والإستغراب، لا بل والذهول والتساؤل : كيف لهذه المدينة وخلال الربع الأخير من القرن العشرين أن تتعرض لخبط عشاء في التخطيط والتنظيم والبناء في وسطها بل وفي أكثر أحيائها!
وهنا لا أقصد الناحية الحضارية بما فيها الجمالية والذوقية والفنية ولكن حتى الناحية التنظيمية والخدمية ! ألم يكن لإدارة المدينة وإدارة ريفها مخططات تنظيمية كأساس يتبع في التوسع والبناء والتطوير العمراني ؟
لا.. ! لقد كان في حوزة البلديات والمحافظة كل ما يلزم لهذا، وإن كانت على مستوى فني متدني وبدائي ولكنها كانت، وأنا متأكد من ذلك . إذا ً لعل التقصير كان في كفاءة الكادر الفني المسؤول في العقود الأخيرة وفي إدارات البلديات وربما في كفاءة المحافظين الذين تولوا المسؤولية في المدينة ومحيطها وفي ريفها .
هنا أرى أنه من واجبي أن أنوه إلى استثناء أثار الدهشة والإعجاب ألا وهو وصول السيد بشر الصبان إلى إدارة محافظة مدينة دمشق، وقد طال انتظاره ! كان استثناء تدل عليه جهوده العنيدة والتي لا تكل في ما يمكن عمله في سبيل هذه المدينة العريقة والتاريخية التي عانت.. وعانت ، لتتنفس الصعداء به أخيرا ً.
لم يكن تقصير إدارات البلديات السابقة بسبب عدم الكفاءة فحسب، لكونهم وصلوا إلى وظائفهم ليس لاستحقاقهم لها، بل بسبب الواسطة والمعارف وكتنفيعة، والدليل المؤكد على ذلك هو أن السيد المحافظ البارز والمتميز ليس بمهندس ولكنه يمتلك ما يكفي من القيم الوطنية والأخلاقية، ما جعله الكفء والإداري الناجح والجريء. نعم إن القيم الأخلاقية تسبق الإمكانيات الفنية لأنه من الممكن استحضار الفنيين وليس بالإمكان استحضار القيم الوطنية والأخلاقية لأنها تولد مع الإنسان ومن بيته وعقله وروحه .
ولهذه الأسباب حصل السيد محافظ مدينة دمشق على دعم مباشر وكامل من السيد الرئيس بشار الأسد بحسه الصادق ونظرته الثاقبة.
إن غياب القيم الوطنية والأخلاقية عند عدد كبير من مسؤولي البلديات وحتى المحافظين جعلهم يشجعون بشكل مباشر أو غير مباشر على التخريب والفوضى والعشوائية في بناء الأحياء المحيطة بمدينة دمشق وحتى في داخلها بالإضافة إلى مناطق الغوطة والمدن المنتشرة في ريفها، وأصبحت المخالفات شيء يشبه الإدمان وكأننا اعتدنا عليها وأصبحت جزءاً من قيمنا الحضارية في التخطيط العمراني ! مع أن كل ذي عقل وذوق وعلم وضمير وخلق يعرف أن هذا السلوك قد يتساوى مع ما يسمى خيانة للوطن ! نعم ليكن لدينا جرأة في وضع النقاط على الحروف ولنسمي الأعمال بأسمائها والأشخاص بأفعالهم.
إنني لا أتردد في اتهام هؤلاء الإداريين والفنيين بالمسؤولية الكاملة عن انتشار مخالفات البناء والأحياء العشوائية السرطانية صعبة العلاج وثقيلة العبء وسيئة المنظر لتصبح صورة غير حضارية تكاد تخنق المدينة وريفها. عدا عن غياب أكثر أنواع الخدمات المرتبطة بوجود كتل بشرية تحتاج إليها حسب ما هو متعارف عليه في عالم التطور العمراني والبشري من شوارع ومستوصفات ومدارس وإدارات خدمية قضائية وأمنية وتجارية ومواصلات وحدائق وملاعب ومحطات سيارات وأرصفة و وجائب ونوافذ ودور حضانة وإرشاد اجتماعي وتربوي ... الخ.
من المنطق والبديهي إحالة كل من كان له دور سواء بالتقصير أو التشجيع أو المساهمة بشكل مباشر أو غير مباشر في ظهور الأحياء العشوائية أو انتشارها أو توسعها. وللتأكيد على ذلك نستطيع تتبع تاريخ هذه الأحياء ودور الموظفين مساهمة فيها:
إن حي عش الورور يمتد من حدود المهاجرين حتى حدود ضاحية الأسد وباتجاه بلدة معربة ، حي تشرين ، القابون ، جوبر ، الطبالة ، باب شرقي ، مناطق المخيمات ، الميدان ، مناطق السبينة ، المعضمية وداريا.. إلخ .
وهنا سآخذ مثالا من هذه الأحياء والذي بدأ ظهوره في بداية السبعينات كحي منظم من قبل مهندسين فاشلين وقصيري النظر، وهو حي مساكن برزة ، وليتطور عبر ثلاثين سنة بتخريب يشمل أكثر من خمسة آلاف مخالفة وبالتدريج على مرأى إدارات البلدية المسؤولة والمتتابعة وتحت إشراف المحافظين السابقين ، هنا الكل يعرف أن الرشاوى التي تقاضاها موظفوا البلدية تصل إلى مليار ليرة سورية على أساس أن وسطي رشوة المخالفة الواحدة هو مئتي ألف ليرة.
أما في حي جرمانا سيئة المنظر والصيط فحسب تقدير العارفين فيها وما هو شائع ، تصل كمية الرشاوى المدفوعة فيها الخمسة مليارات ليرة سورية . وهكذا في بقية الأحياء ومدن ريف دمشق، فهل اعتبر موظفو بلديات هذه الأحياء والمدن مناصبهم منحا إلهية، أرسلها الله لهم لملء الجيب والأكياس بنقود حرام هي في الأساس من حق ميزانية الدولة لقاء عمل حضاري منظم في التطور العمراني والمدني !؟
إن الإستثناأت التي وقعها محافظون سابقون كانت لا قانونية ولا حضارية والتي تتنافى مع القيم الوطنية والأخلاقية وشرف المسؤولية مقابل مبالغ من الرشاوى الكبرى، هي التي ساهمت في تخريب غوطة دمشق ، كإحدى عجائب الدنيا السبع وحولتها إلى أسوأ مناطق الطبيعة والبناء في العالم ! وكذلك مدن ريف دمشق أما في قلب المدينة فلننظر إلى إحدى الأبنية في موقف جبل في المزة حيث أكلت الرصيف كله في أحد أهم أحياء دمشق ! وفي شارع الثورة ، كيف بنيت بنايتين كبيرتين حديثا ً فوق الرصيف مباشرة ؟
إنها مفارقات وهي غيض من فيض! ، وهنا أتمنى أن يقدم هؤلاء الناس إلى القانون والمسؤولية ويحصلوا على الجزاء القانوني والوطني العادل. إنني أحيي السيد محافظ مدينة دمشق السيد بشر الصبان واتمنى له الإستمرار في الصبر وتحقيق نجاحات أخرى وكبيرة لإظهار دمشق بصورة حضارية تغطي ما قام بتخريبه السابقون، وأن يتم تطوير مديرية التطوير العمراني بمهندسين موهوبين وذوي قيم وطنية وجمالية وإيثارية.
ولعل الإستفاد من تجارب مدن كبرى نهضت فجأة وحلت مشاكل كبرى فيها قد يكون في مكانه كمدينة موسكو.على سبيل المثال إزالة أبنية متهالكة داخل المدينة لبناء مكانها أبنية خدمات ومواقف سيارات ولإبقاء وجائب وشوارع واسعة ومعابر للمشاة عريضة تحت الأرض بدل المعابر الجسرية السيئة مثل معبر السومرية والبحصة وليصبح عمق المعبر مترين ونصف وعرضه ستة أمتار وعرض درجه ليس أقل من أربعة أمتار.
إنني أعتبر أن أي جهاز في أي دولة لن يحقق المرجو منه ما لم يحظى بدعم ومساهمة المواطنين الشرفاء في نجاحه ومراقبة أدائه وأداء موظفيه وفق القانون والواجب الوطني والقومي،وقيام مجلس الشعب بصياغة ما يلزم من القوانين بشكل مستمر وتطوير القوانين القائمة بما يتماشى مع ضرورات التطور العمراني والسكاني عدا عن المجالات الأخرى، عندها سنستطيع الإنطلاق أكثر قوة في مسيرة الحضارة و البناء والتطور الاقتصادي والإجتماعي والإداري باتجاه الأهداف القومية في عالم لا يرحم الضعفاء.