قرأت أحرف أسفاره ، واطلعت على كلمات ترحاله ، فتكحلت عيناي بمتعة بريق حياته ، أغلقت دفتي كتابي وتربعت عرش فراشي
ونمت تلك الليلة وأحلامي تلاحق أشرعة سفنه ، وتعانق موكب إبله
استيقظت وخيالي مازال طليقاً في فضاء أحلامي ، يبتسم لأمجاد حضارتنا ، ويفتخر بمعجزات أجدادنا ، وكما يقال في الحلبية ( راحت السكرة وإجت الفكرة ) بدأت حياة اليقظة و تصحبها حياة البؤس والشقاء ، حملت ورقة معاملتي وحيدة فريدة لا شقيق لها ولا شقيقة ، وحزمت أمتعتي وجهزت راحلتي وودعت أهلي وأصدقائي ، وأبحرت سفينة معاملتي كسفينة ابن بطوطة في بحر الدوائر الرسمية ، وما إن تحط رحلها في شاطئ دائرة حتى تسافر إلى أختها ، وهكذا مضت قافلة المعاملة تطوي كتاب الدهر شهراً تلو شهر وسنة تلو سنة ، ربما يتوارث الأحفاد معاملة الآباء .
وكبرت هذه المعاملة وتزوجت معاملة معقدة مثلها تقاربها في عمرها ، وتماثلها في كثرة أسفارها ، وهكذا أصبح لهذه المعاملة عائلة كبيرة من الورق ، وعشيرة من الأختام ، وقبيلة من التواقيع ، سبحان الله والبقاء لله فقد هرمت وشاخت واشتعل رأسها شيباً ، وشعرت بدنو أجلها فأوصت أن تدفن في أكبر مستودع وأوسع مخزن تكريماً لحياتها المديدة وأعوامها العديدة ، فهذا أدنى تكريم لها بعدما أحيلت على التقاعد .
انتهت رحلة المعاملة واندثرت أحداثها ، وحق لها أن تسطر في قاموس الرحالة ومعجم المستكشفين ، و للأمانة العلمية لا يخفى أثر هذه الرحلة على حياتنا فأذكر على سبيل المثال لا الحصر ، أن أول درس نتلقاه من هذه الرحلة الميمونة (الصبر ) فحينما يقف المراجعون في طابور امتداده أطول من نهر النيل ، ويتسامر
الواقفون بحكايا عدد فصولها تفوق عدد حلقات أي مسلسل تركي ، وتمل الأرض من مكث نعالهم ، ومع كل ذلك نجد الصبر تتفجر منابعه من كل جوانبهم ، أليست هذه الرحلة إبحاراً في معين الصبر ، ولا يخفى عن ناظر قيمة هذه الرحلة في تربية النفوس على مكارم الأخلاق ، وإلا بماذا نفسر سعة أخلاق المراجع أمام غطرسة موظف حاصل على دبلوم في الصف السادس بعدما أنهى السنة الرابعة للصف الخامس .
وآخر ما نتعلمه من تلك الرحلة ( الكرم ) ترى نفسك تجود من دراهمها وتغدق بدنانيرها على موظف عفيف بلغت عفته مبلغاً أن رفعت شعارها ادفع بالتي هي أحسن ، فما أجمل أن تروض نفوسنا على الكرم والجود ، أليس رحلتنا هذه أنفع وأكمل من رحلة ابن بطوطة ، ولو علم ابن بطوطة برحلتنا لهجر سفنه ونحر خيوله ، وضحى بجماله قبل يوم ضحاها وحمل معاملة مثلنا وجال فيها بين تلك الدوائر يستكشف منها نفائس الأخلاق ويروض النفوس على المكارم ، فأكرم بها من رحلة وأعظم .
وقبل الختام لو أتقن كل واحد عمله ، وأشعل في قلبه مصباح ضميره ، وانساق وراء إنسانيته لما كان هناك رحلة مثل رحلة ابن بطوطة .
ما أريد قوله أن الغرب تحكمه قوانينه لا تدينه ، و مع ذلك لا نرى أمثال تلك الرحلات عندهم ، و نحن مهد للديانات و ندعي تمثلنا بالديانات و مع ذلك نرى كل شخص يعزف على قانون يرتضيه و على وتر شرعة تهواها نفسه .
لأن تديننا عادة لا عن فكر وعن عبادة ، فالدين بلا شك أخلاق و إنسانية و قيم . و أنا لا أحمد الغرب إلا بمواطن يجب أن يحمد فيه من تقدمه و تطوره ، لا من أخلاقياته أو سلوكياته المنحرفة