لا يختلف إثنان على أن قضية التربية والتعليم هي من القضايا الهامة والأساسية جداً التي يجب أن يهتم بها
والتي يجب أن يولي لها أي مجتمع وأي دولة وأي نظام سياسي أهمية كبيرة إذا ما أرادوا أن يبنوا مجتمعاً ومستقبلاً مشرقاً وواعداً وناجحاً, وذلك لما تمثله وتعنيه العملية التعليمية والتربوية من أهمية في بناء الإنسان والمجتمع والمستقبل.
وهذا أمر أعتقد أنه محل إجماع وإهتمام من قبل الجميع حكومات وشعوب, ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا وبقوة, هو أنه هل يكفي أن نعرف وأن نعترف وأن نردد في كل محفل وفي كل مجلس وفي كل إجتماع, بأن قضية التربية والتعليم هي قضية هامة جداً وهي الأساس الحقيقي لبناء أي مجتمع راقي وإلى ما هنالك من هذه المعزوفة ألتي أصمّت آذاننا صبح مساء في كل إجتماع وفي كل لقاء وفي كل مناسبة.
أين هي أُمة إقرأ اليوم بعد ثلاث أو أربعة آلاف سنة على إكتشافها وإختراعها لأولى الأبجديات واللغات في الكون وفي التاريخ ؟
هل مازال أحفاد الفينيقيين والآشوريين والبابليين والفراعنة من رواد ومن بُناة ومن حاملي لواء العلم والمعرفة والحضارة مثل أجدادهم وأسلافهم ؟.
هذا هو تماما ما سوف أجيب عنه الآن في هذه المقالة
فمن خلال الدراسة التي اجريتها لمناهج التربية والتعليم في ألمانيا, وبمقارنتها مع المناهج الموجودة في العالم العربي, كان واضحا وبشكل جلي بأن مناهج التربية والتعليم في العالم العربي هي مناهج مهترئة وغير مجدية وغير مناسبة لتنشئة الأجيال الجديدة التنشئة الجيدة والمطلوبة التي يمكن أن تمد المجتمع العربي بأجيال مبدعة وناجحة ومتعلمة ومنتجة, وذلك يعود إلى أسباب كثيرة أهمها
أن الأسس التي تقوم عليها العملية التربوية والتعليمية في العالم العربي , هي أسس سطحية ومعقدة بنفس الوقت وخصوصاً في المراحل الأولى من الدراسة, حيث أننا نجد بأن المنهج التعليمي للصف الأول والثاني في هذه الدول يُغرق الطالب بكم كبير من القواعد النحوية وجداول الحساب والطرح والجمع وإلى ما هنالك من الجرعات التعليمية الدسمة والصعبة لهكذا مستوى من الطلاب, في حين أننا نرى بأن طلاب الصف الأول والثاني في المدارس الألمانية يقضون هذين العامين وهم يتعلمون الأحرف الأبجدية والأرقام من الواحد إلى العشرة, وبتـعلم أسماء الحيوانات فقط, ولكن بموازاة ذلك يكون المعلمون والطاقم الإداري في كل مدرسة ألمانية وعبر مناهج تربوية تعليمية علمية مدروسة موضوعة على يد علماء وخبراء في علم النفس والتربية, مستنفرين وواضعين قصارى جهدهم من أجل :
أولاً : زرع حب المدرسة في قلب الطالب, من خلال التودد إليه والتقرب منه ومساعدته على تقبل فكرة الخروج من حضن أمه الدفئ إلى حضن دافئ آخر هو حضن المدرسة
وثانياً : إلى تحفيز الطاقات والقدرات والمواهب الكامنة في داخل كل طفل, لإستخراجها ولتسليط الضوء عليها
ثالثاً : وضع تقييم حقيقي لقدرات كل طالب ولطاقاته ولمواهبه, و لمشاكله ونقاط ضعفه أيضاً. حتى يسهل عليهم توجيهه التوجه ألصحيح فيما بعد
ففلاسفة التربية والتعليم في ألمانيا وفي أغلب الدول الأوربية أيضاً, يأخذون جيداً بإعتبارهم عند وضعهم لسياساتهم التعليمية والتربوية, بأنه كون أن البشر هم من جنس واحد, فإن هذا لا يعني أنهم نسخ متطابقة من الكائنات في طاقاتهم وقدراتهم ومواهبهم, ويفهمون جيدا أيضاً, بأن إعتبار الطلاب كلهم نسخ متطابقة من الكائنات عند وضع المناهج التعليمية والتربوية, وعدم الأخذ بالفوارق الموجودة بين الطلاب من حيث الطاقات والقدرات والمواهب والميول.
هو أمر كارثي وخطير جداً جداً . لأنه يُقفل الأبواب أمام كثير من طاقات ومواهب وقدرات أبنائهم في الحياة وفي المستقبل وفي النجاح, فلكل إنسان طاقاته وقدراته ومواهبه,
وعلى أساس هذه القدرات والمواهب والطاقات يجب علينا أن نتعامل معه.
وهذا لا يعني أن تضع الدول والحكومات منهج منفصل ومستقل لكل طالب, بل يجب عليها
أولاً : أن تضع آليات ومناهج لكشف واستخراج المواهب والطاقات والقدرات الكامنة داخل كل طالب,
وثانياً: يجب عليها أن تتبني مبدأ التخصص العلمي الجزئي والمتدرج من صفوف مبكرة كالخامس أو السادس مثلاً, ( كما هو الحال في ألمانيا على سبيل المثال, حيث يتم إبتداءاً من الصف الخامس فرز الطلاب إلى عدة أنواع من المدارس , كلٌ حسب قدراته العقلية وحسب مواهبة وحسب طاقاته الذهنية ) ,
ويجب عليها أيضاً تأمين تنوع كافي من التخصصات لكل أنواع التخصص الموجودة في الحياة, حسب المراحل الدراسية لكل فئة عمرية, حتى يتمكن الطالب من أن يأخذ التخصص المناسب له في حياته من مراحل مبكرة من عمره, وفقاً لقدراته ولمواهبه ولميوله التي يمكن أن تظهر مبكراً إذا ما توفرت آليات ومناهج وطواقم متخصصة تعمل على استخراجها وتحفيذها.
ولكن على عكس من ذلك نجد بأن المدارس العربية الرسمية منها والخاصة على حدٍ سواء لا تعير أي إهتمام لإستخراج أو إلى التعرف على طاقات وقدرات ومواهب أو حتى مشاكل اي طالب أبداً, وهي تتبنى مناهج وقوالب ثابتة لكل الأطفال منذ المراحل الإبتدائية وحتى المراحل الإعدادية, و تتعامل مع الطلاب وكأنهم كتل مادية حية متناسخة ومتطابقة ومتشابهة في كل شيء , من القدرة إلى الإستيعاب حتى الإبداع مروراً بالقدرات والمواهب والميول... إلخ
فإذا كان الهدف الأول والأهم والأسمى للمدارس وللمناهج التربوية والتعليمية هو بناء إنسان محصن وفعال ومنتج وقوي من الداخل نحو الخارج, فإن هذا الهدف لن يتحقق إلا من خلال بناء هيكلية حقيقية وفعالة على أرضية صلبة تأخذ من مواقع ومواطن القوة الموجودة في داخل كل إنسان قاعدة وأساس لها. بهذا فقط يستطيع أي إنسان في المحصلة بناء مستقبل مشرق وناجح وفقاً لقدراته وميوله ومواهبه .
ولكن الفوضى والإهتراء والتشوه في العملية التعليمية والتربوية لا يقتصر على المرحلة الإبتدائية فحسب, بل إنه يمتد إلى كل المراحل الدراسية الأخرى, فلا يستغرب أحد إذا قلت دراستي قد خلصت إلى أن المناهج التعليمية والتربوية في المرحلتين الإعدادية والثانوية في كثير من الدول العربية تقدم 60 إلى 75 بالمئة من الجرعة الدراسية على شكل معلومات قليلة عن أشياء ومواد كثيرة .
وذلك طبعاً يعود لعدم وجود مادة علمية قيمة وحديثة, بسبب عدم وجود عقول قيّمة ومختصة وخبيرة وقادرة على وضع مادة علمية جيدة تتناسب مع هذه المراحل الدراسية, كالخبرات والعقول الموجودة في الغرب, وأيضاً لعدم وجود مراكز بحثية علمية في هذه الدول, يمكن لها أن تمد هذه المناهج بمادة علمية قيّمة. الأمر الذي يؤدي دوماً إلى إلى عدم قدرة المادة التعليمية على تقديم مادة تعليمية مهمة وجيدة, لدرجة أن الطلاب العرب عندما يدخلون إلى الجامعات, وخصوصاً إذا كانت جامعة محترمة, في البلدان المتطورة كأوروبا وأميركا وحتى في آسيا, يتفاجؤون بأنهم لا يملكون أي معلومات تذكر عن الإختصاص الذي ينوون دراسته
في حين أننا نجد بأن البرامج التعليمية والتربوية في بلد مثل ألمانيا مثلاً, مدروسة وموضوعة, حتى تتناسب من حيث الكم والنوع, مع عمر وطاقة ومقدرة كل فئة عمرية في كل مرحلة من المراحل الدراسية, من الصف الأول وحتى أخر سنة جامعية, وأيضاً حتى تتناسب مع كل تخصص من الإختصاصات, بحيث نجد بأن الطالب الألماني عندما يدخل إلى الجامعة, يجد نفسه أنه قد دخل مرحلة دراسية متممة للمراحل التي سبقتها, وبأنه يملك جميع المعلومات التي يحتاجها لبداية مرحلته الدراسية الجديدة.
وهذا أمر اعتقد أنه لم يتمتع به طالب عربي حتى الآن, وأضيف إلى ذلك أيضاً بأنني أعتقد بأن هذا التشوه وهذا الضعف في المناهج التعليمية في البلدان العربية قد قضي على أهم هدفين وميزتين للعملية التعليمية والتربوية في الوطن العربي وهما, ميزة وهدف الحصول على المعرفة الحقيقية والمتخصصة والعميقة في التخصص أو في المجال الذي يحب ان يدرسه أي طالب, والميزة الثانية هي الثقة الكافية بأن العلم في الوطن العربي وخصوصاً في المدارس والجامعات العربية سوف يكون طريق حقيقي ومضمون للتحصيل وللنجاح في الحياة.
هاتين الميزتين اللتين تُعتبران هدفين وميزتين هامتين لأي طالب للعلم في أي مكان في العالم, هم وياللأسف قد ضاعا وأُسقطا من حساب الكثير من الطلاب العرب , رغم إنهما يعدان من أهم الأشياء التي يمكن أن تحفز إي إنسان إلى العلم, و من أهم الأشياء التي يُحب أن يراهما ويتحسسهما الإنسان في طريقه إلى العلم وإلى المعرفة مبكراً, وذلك حتى يستطيع أن يحفز ذاته ويشحذ طاقاته أكثر وأكثر نحو التخصص ونحو النجاح في المجال الذي يحس بأنه سوف يحقق له أهدافه وطموحاته في الحياة
والمشكلة الأخرى في مناهجنا هي أن أسلوب ومناهج التعليم في العالم العربي, تُحَمِّل الكثير من الواجبات والمهام التعليمية على الطلاب أنفسهم وعلى الأهل في البيت, وتعفي المدرسة منه, كحل الوظائف والتمارين مثلاً, وهذه كارثة كبيرة لأن حل الوظائف والتمارين هو أهم عنصر من عناصرالعملية التعليمية والتربوية, لأنه يجسد ألحجم الحقيقي لفهم الطالب للمادة المقدمة له, وهو يقدم صورة حقيقية عن الآلية التي يمكن أن يتبناها الطالب في التعامل مع المعلومة التي تلقاها أثناء شرح الدروس, وهذا أمر لا يمكن لنا أن نتركه بأيدي غير خبيرة كالأهل أو كالطلاب أنفسهم, لأن حل الوظائف وإعادة إستعمال المعلومات التي يتلقاها الطالب أثناء شرح الدروس, يحتاج بالإضافة إلى المعلومة, يحتاج إلى منهجية مبنية على أُسس علمية دقيقة جداً محسوبة بدقة,وهذه الألية وهذه المنهجية, هي التي سوف تحسم عملية نجاح او عدم نجاح أي طالب في أي مادة.
فهذه العملية تعتبر خلاصة العملية التعليمية والتربوية, وهي برأيي الحد الفاصل بين نجاح العملية التعليمية والتربوية وعدم نجاحها, وبين نجاح الطالب وعدم نجاحه. وهذا ما تنبهت إليه الكثير من الدول الأوروبية , وعملت على وضع حلول ناجعة له, من خلال تخصيص قاعات و معلمين مختصين لمساعدة الطلاب في هذه الواجبات
يضاف إلى ذلك أيضاً أن المناهج التربوية والتعليمية في الوطن العربي ما زالت تعطي بنسبة تعادل (95 ــ 99)% من جرعتها التعليمية على شكل معلومات نظرية فقط, في حين أنها لا تقدم أكثر من(1 ــ 5 )% من جرعها التعليمية للجانب العملي والتطبيقي, وهذا أمر يجعل التعليم في كثير من جوانبه غير ذي جدوى وغير ذو فائدة
أما الكارثة الأخيرة, فهي في الآلية والعقلية التي تحكم عملية دخول الطالب العربي إلى الجامعة.
فعملية دخول الطالب العربي إلى الجامعة تخضع إلى آليات كارثية ومدمرة, إن كان من جانب القوانين الحكومية التي تفرضها الدول العربية لدخول طلابها إلى الجامعات, كالدخول بحسب القرعة, أو على أساس حاجة تلك الدول لأنواع محددة من الإختصاصات,
دون الأخذ بعين النظر ميول الطلاب أو طاقاتهم أو مواهبه. أو إن كان من جانب تلك العقليات والأفكار التي تحكم إختيار الطلاب أنفسهم للإختصاصات التي سوف يدرسونها, فما زال كثير من الطلاب العرب يبني إختياراته على أساس أن اشهادة الجامعية هي شهادة وجاهة قبل أن تكون شهادة تخصصية مهنية, الهدف منها هو كسب معرفة في مجال ما أو في مهنة ما ليستطيع الإنسان من خلالها تحقيق ذاته وتأمين حياته وتأمين فرص دخل له ولأسرته في المستقبل, الأمر الذي يؤدي بالنتيجة إلى فشل كثير من طلابنا في دراستهم أو في حياتهم العملية, لأنهم اختاروا إختصاصات لا تتماشى مع قدراتهم ومواهبهم وطاقاتهم
وهذه الأمور مجتمعة سوف تزرع في قلب الطالب العربي , وهي زرعت بالفعل , الخوف من المدرسة, و كره المدرسة وكره فكرة التعليم من أصلها, وسوف تزرع أيضاً عدم الثقة بالعملية ألتعليمية والتربوية في نفوس كثير من الأهل والطلاب على حدٍ سواء
ولهذا نجد بأن المدارس الأجنبية في بعض البلدان العربية مع الأسف, شكلت بديلاً للمدارس الرسمية عند كثير من الأُسر, وكثير من الطلاب العرب القادرين على تغطية نفقاتها, وذلك طبعاً بدافع الخوف وقلة الثقة والإشمئزاز من كل تلك المشاكل وكل تلك السلبيات الموجودة في المدارس الرسمية, وفي المناهج التربوية والتعليمية العربية الرسمية على إمتداد الوطن العربي.
وهذا الواقع السلبي والمر للمدارس وللمناهج التعليمية والتربوية العربية, هو أمر خطير جدا على جميع الصعد وبالاخص على صعيد التنميةً البشرية , ولذلك يجب على جميع الحكومات والانظمة التعليمية العربية أن تضع حلول سريعة وناجعة لهذا الواقع , لأن إستمرارية قطاع التربية والتعليم في العالم العربي على هذا الوضع ينبيء بكوارث كبيرة ومستقبل مزري جداً