طار إليها فجأةً كالمجنون ..انتزعها من مكانها ..هزّها من كتفيها المثقلتين وبثورة الهذيان قال: -ولكنني أحببتك ومازلت أحبك ..
حتى اللحظة أحبك ..حتى حتى القيامة سأحبك ....وأنت ..لا تأبهين ..أفنيت عمري لكي أبني لك مملكتك التي تحلمين..لكي أبقى إلهك الذي تحبين ..ولكنك حزمت أمتعتك ببرود الاستقرار ورحلت ..رحلت هكذا بلا مقدمات ..تركتني ثائراً ..عاجزاً..وحيداً مع ركام الماضي ..طعنتني في الصميم ..يا مرأةً بألف وجه ..ما أحببتني ..والله ما أحببتني ..!
انتقل إليها الهذيان (فهما ما اعتادا إلا أن يكونا واحداً) : -ما أحببتك ؟!!!!!!!!...لماذا لا تفهم يا رجلاً لا يريد إلا أن يكون إلهاً ..لمَ لا تفهم أنني أذوب في كفيك ..أن حياتي كلها مرسومة في خطوط يديك ..أن نافذتي إلى الحياة تنساب من بين عينيك ..لماذا لا تفهم ..لماذا تعذبني أكثر وأكثر .. أحبك ..أريدك ولا أريد أحداً سواك ..لمَ لا تفهم لمَ؟
ورغم كل الأسوار التي أحاطت نفسها بها ..إلا أن دمعةً حبيسةً نجحت بالوصول إلى فضاء وجنتيها..فاقترب منها الإعصار ومسح تلك الدمعة بحُنوّ الهذيان..فما كان منها إلا أن ألقت بنفسها إليه..أخيراً ألقت بنفسها إليه ..ذابت معه ..ذابت فيه ..بكت وبكت....بكت حد العشق..حدّ الثورة..حدّ الالتحام مع الإعصار الذي امتد بدوره وغرق حتى ما عاد لحدود كلٍّ منهما شكل..!!!!
فيضان وإعصار ..امتزجا بشكل غريب ..بمشهد ٍ لو قُدِّر له أن يكتمل لغيّر شكل الحب في تضاريس الكرة الأرضيّة ..!
ومن قلب شلالات الصمت و الجنون ..فكر الفيضان .."الله ..الله ..كم أهواك ..آهٍ من لذة هواك ..آهٍ من عمر انقضى وآجر يمضي لا يطيب إلا مع رجل سواك .."
دفنت رأسها في صدره أكثر وكم تمنت في تلك اللحظة أن يتوقف الزمن وتبقى بين يديه فلا تخرج من دوّاماته أبداً ..كيف لا وفي داخلها نشوةٌ عميقة لا يوقظها إلا سحر هالته
غاصت فيه أكثر وأكثر حتى هاجمتها رائحة البارود والحرائق من مسامات جلده..ورائحة التراب المعتّق من أنفاسه ..آهٍ لو يعلم كم تهواه ذلك الحصان البريّ العنيد ..لو يعلم كم يروي وهمه غرورها ..ويبني لها ممالك من الكواكب والشموس ويتوِّجها أميرة ..أميرة ليس كمثلها أميرة ..أميرة أحبها إله ..!!!!
لكنها تذكرت فجأة كأنما أُوقِظت من خدرها وفكرت .."كم من مرةٍ استيقظ غرورك ليجد أن تلك اللذة ما كانت إلا وهماً ..... وكم من ليلٍ قضيته تنتحبين مملكتك ..قلاعك .. فرسانك ..حتى حبيبك الذي أدركت ِ أن ما هو إلا إلهُ من ورق ..! استيقظي يا ملاك الحب ..استيقظي واذكري ماتعلّمتِه (ما اقتات غرورٌ بوهم إلا أكله الوهم في النهاية! )."
أما الإعصار ..فكان يقاوم بوهن وعناد استقرار الفيضان الذي كان يطعن أجزاءً من الإعصار بقسوة ويحتضن أخرى بحبٍّ ودفء شمسيّ قوي ..
كم تمنى الإعصار في تلك اللحظات لو تسقط أقنعة الغرور ..كم تمنى لو يرضخ بين ذراعيّ الاستقرار ويدفن أجزاءه المغتالة وهو راضٍ تماماً عمّا فعل ..كم تمنى الإعصار حينها لو يمطر..ثم يخلد في مخدع الاستقرار ويغفو لمرّة واحدة بملء جفنيه
وفي درجة حرارة أعلى من الصفر ,ولكن غروره _كما في كل مرة_ غلب قلبه ...فأخذ يبحث عن تشردها ..لا بد أن يجد ما يعيدها معه ..ذلك الملاك المتمرد لابد أن أجزاءً من الماضي قد غلبتها ..بلى فهو لا يزال قادراً على أن يسمع صوت اللبوة في أنفاسها وما زال يشعر بخصلات متمردة متناثرة في شعرها المنساب ..عدا عن رائحة البنفسج التي لا تصرخ"أنا لا أنتمي إلى هذا المكان".
ابتسم ..وضمّها إليه بقوةٍ أكبر ..قوة حملها إليه الانتصار الأعمى ..ثم قال:
-عودي معي
-ليتني أقدر
-استمعي إلى صوت روحك ..أنت لا زلت لبوة ..!ارفعي يديك عن شعرك الذهبيّ لتجدي أنه مازال راغباً بالعودة إلى الجنون والاختيال ..ما بالك ؟ أما اختنقت بكذبك أمام صراخ البنفسج ..استيقظي أنت لا تنتمين إلى هذا المكان .
أغمضت عينيها بقوة ثم استجمعت قواها ودفعته بحبٍّ ظاهره الرفض: - بل أفعل
كرّر: -أنت لا تحبين هذا المكان
كررت: -بل أحبّه
اقترب منها مرّةً أخرى بقوته السحرية التي يؤمن بها..مسح على وجنتيها مداعبا : -أكثر مني؟
أبعدت يده عنها بهدوء وقالت : -ما أصغرك أمام إلهي الجديد وما أضعف حبي لك أمام حبي له ..وكأنما أغمدت سيف كلماتها في قلب غروره فانسحب بعظمة مهتزة نحو النافذة وكأنه لا يسمعها ..
شعرت بأن ذلك زاد من شجاعتها فأكملت : -لمَ لا تفهم أن حبّاً أسطورياً يشدني إلى هذا المكان ..وأن عنايةً عظيمة تحيط بكافّة تفاصيلي ..تحميني ..ترفعني ..تقلّم أظافر انسانيّتي ..تجعلني أقدّس القيد ..وأتلذذ بأن أجد حاكماً أفضي إليه ..أثق به ..أمشي بإرشاده معصوبة العينين ..إله من نُسُج الحقيقة لا من نسج الوهم..!
- ما قادكِ الحبّ يوماً..
- لأني ما وثقت قبل بإله قط.. أتذكر ..عندما التقينا في تلك المدينة "مفترق طرق"..كنت امرأة أضناها تأليهها لذاتها ..امرأة مليئة بآثار السياط..كنتُ إلهاً كثيراً ما يخطئ فيعاقب نفسه على قدرةٍ لا يملكها ..كنت أشعر أن ثمة حمل أثقل من طاقتي ..حتى التقت بك الأقدار في طريقي.. وجدتك رجلاً قويّا شجاعا فاحتويت ضعفي ..لملمت جراحي ..أقنعتني أنك إلهي ..أنك إلهي ..أنك تلك القوة التي ستحملني وتحميني ً .. وبصدق من لا يدرك..صَدّقتُك ..فاحتميت بك ورغم أن دماء السياط جفّت إلاّ أن دماء التعثر ازدادت..
قلت لي أنك ستبني لي مملكة جسورها من زهر الليلك والليمون والأقحوان ..
وأنك ستبني لي عرشاً من الزمرّد ..وستخلق لي شعباً لا يعرف إلاّ الطاعة..
ستجعل مني أميرة تدير بين يديها الشموس والأقمار ..وكان عليّ مقابل ذلك
فقط أن انتظر وأنتظر حتى تجد أرضا خالية لا تحكمها قوانين مسبقة ..أرض لا شعب فيها..!
وظللت أنا بصبر من لا يفهم أنتظر وانتظر .ان تحول مملكة الفكر هذه الى مملكة من حجارو وحديد وروح..
سنين مرت ونحن في مكاننا نستيقظ كل صباح نجول أجزاء الارض علنا نجد تلك البقعة الخالية ونعدو ليلا خائبين الا من فكرة جديدة تغرينا على الصمود..!
كل شيء حولنا تغير ..الا انا وانت حتى ذرات اللحظات غيرت وجهها وحتى ذرات المكان ولدت ألف جيل ..تعبتُ ..انهكني الترحال ضاق صدري من الصمود بلا صك ملكية واحد ..فاستنجدت بك استجديتك ان نرحل من مفترق الطرق هذه ونسكن أرضا أخرى ..ولكنك حكمت علي بعذاب الوهم معك ..قلت لن نسكن الا أرضا تصنعها أنت ولن ترضى أن تتخلى عن اي جزء من أجزائها ثمنا للانتماء ..هددتك بأن أرحل وحدي ..واذ بك بقسوة الجبروت تقول:لن اسكن الا أرضا تقبلني بكافة أجزائي..
ماذا كنت تريدني بعدها أن أفعل ؟ ما عدت أصدق وهمك وما عدت أؤمن بوعدك ..فلملمت حقائبي ورحلت ممزقة الروح وببرود الموت ..فحكمتَ علي عندها بالخيانة العظمى..لإله من ورق..!
وما فهمت َ أنك تخليت عني من أجل وهمك فتخليتُ عنك من أجل الحقيقة..!
أنا امرأة تعبت من اللأتنماء وكرهت السفر بلا غاية ....مللت من أرض بلا تضاريس ..كرهت التشرد الذي ما زادني إلا رهقا..
أنا امرأة وجدت مبتغاها ..إلها ..حبا ..حقيقة..مملكة تدرك أن فيها طريقا للوصول الى القمة ..وتدرك كذلك أن للقمة سقف لا يسعها أن تتجاوزه ...فلم أعود الى أرض تملِها الأشواك وتخلو من الجبال!
- بل أنت امرأة ما استطاعت مواجهة الحياة بمفردها..فاختارت أن تكون كأي امرأة أخرى..فالتجأت الى أسوار الجماعة لتحميها..
ابتسمت ..فلن يفهم مادام وهم الغرور يحكمه ..فقالت لتنهي هذا الجدال العقيم..لن أعود اليك ..ولن أكون لك ..ولن أطلب اليك حتى أن تبقى معي هنا..
-لأنك تعلمين أن أرضك لا تتسع لعظمتي..
-عساك يوما تجد أرضا تتسع لعظمتك
نظر اليها مطولا ..فلكم كان حزينا يومها ..فكيف تضعف امرأة مثلها ..لم يكن يريد أن يخسرها ..ولكن الأمر قد حسم فهذه التي تقف أمامه أمرأة تشبه تلك اللبوة ولكنها بالتأكيد ليست أميرته التي جاء يبحث عنها..!
هم بالخروج ..فجاءه صوتها تقول ..انتظر لحظة ..سآتي معك!!
التفت إليها فوجدها ترتدي معطفها..فابتسمت وهي تقول..ليس من شيم أهل مدينتي أن لا يكملوا الضيافة حتى النهاية ..سأوصلك حتى الحدود.
وقبل أن يخرجا لفته أحد أشياءها فقال..ما هذه الأشياء المكدسة هنا؟
- أستعد للرحيل في خطوة جديدة نحو القمة!
هز رأسه أمام هذه المدينة الغريبة ..ثم خرجا معا وقطعا شوارع المدينة قاصدين الحدود...
................................
عند الحدود نظر اليها ..بإغراء أخير وقال: خطوة واحدة تفصلك عن الحدود!
قالت بجذل :-خطوة تؤكد لك أني مازلت أعشق الخيار الأصعب!
ودعها بكبرياء ثم عبر الحدود ..ومن بعيد التفت اليها وصاح بصوت ساخر..ملأ اذني المدينة :-يا عبدة الخوف .. ! ستملين الخوف يوما وسأعود اليك يوما لأجدك قد حزمت حقائبك ولكن هذه المرة لتعودي معي!..عهد علي أن أعود وأحررك ..هو عهد علي أتسمعين .
ثم مضى وبدأ يختفي رويدا رويدا حتى غاب مع الأفق...
فنفضت عن خصلاتها الذهبية وعن ثيابها آثار الاعصار ..وقالت بهدوء الثقة:
-يا عبد الوهم ...محال عليك أن تفعل .