سورية صهيل الحضارة 4
عندما يتوفر دفئ المكان تتوفر الحضارة , المدن الأثرية و التي هي عبارة عن أطلال اليوم تختزل في داخلها ماضي قاطنيها و الفتهم , و ضجة تجارها و صناعيا و حرفييها , و خشوع طقسها الديني والتي تؤلف ككل سيمفونية الحياة التي تجعلك تحس برهبتها و عظمتها فما بالك إذا تخيلت هذه المدن في أيام عزها وازدهارها .
لقد تقصدت من خلال العنوان أن أتجنب تسمية المدن الميتة أو المنسية لأنها في الحقيقة كنز حضاري كبير يمكن أن يقارن بأي كنز حضاري ولاية دولة مشهورة في قطاع الآثار والسياحة,و خصوصا إذا كنا نعرف أهمية هذه المدن الأثرية و كيفية التعاطي معها سياحيا حتى تصبح موردا هاما من موارد الدخل القومي للبلد .
المدن المنسية والتي تنام بسلام في منطقة جغرافية تعرف بالهضبة الكلسية بين مدينتي حلب و ادلب هي مدن أثرية بيزنطية يزيد عددها على 600 موقع اثري, اغلبها مسكون حتى اليوم و حوالي 60 موقع غير ما هول نذكر منها دير سمعان ,سرجيلا ,قلب لوزة ,النبي هوري ,البارة,براد, برج حيدر وخراب شمس والقائمة تطول .
هذه المدن تأسست بين القرن الأول الميلادي و القرن الرابع والخامس الميلادي و استمرت الحياة فيها حتى بداية القرن السابع الميلاد, وبالرغم من أن هذه المدن تنتمي إلى فترة العصور الكلاسيكية (الإغريقية,الرومانية,البيزنطية) في سورية الا انه يجب الاعتراف بأنها حملت الطابع المحلي في عمارتها و كنائسها وفنونها وهذا حسب المستشرقين الفرنسيين والذين أمضى البعض منهم قسما من حياتهم في هذه المدن بالدراسة والتحليل و الذي لا يسعنا إلا توجيه الشكر و الامتنان لجهودهم الجبارة في دراسة التاريخ في شمال سورية و تحليله و تدريسه في جامعات وأكاديميات الغرب كعالم الآثار الفرنسي جورج تشالنكو.
والذي كان له فضل كبير في العمل على العناية بهذه المدن , والعالم الفرنسي جورج تات الذي توفي مؤخرا بعد أن أمضى ثلاثين عاما في دراسة تاريخ هذه المدن لاستخلاص صورة واضحة عن الحياة في سورية و أريافها في فترة المدن المنسية والتي درسها بدوره في جامعة كنتاي فرساي في فرنسا .
و للمدن المنسية الكثير من الأبحاث في دول العالم و خصوصا الجانب الذي يتلق بالبحث عن سبب الهجرة والذي يتزامن مع الفتح الإسلامي لبلاد الشام , وهناك عدة فرضيات ونظريات لهذا الهجر لهذه المواقع منها الأوبئة و مرض الطاعون الذي ضرب المنطقة في نهاية العصر البيزنطي .
الفرضية الثانية
ترجح الهزات الأرضية المتتالية التي ضربت الشمال السوري, وهناك فرضية العالم تشالنكو التي تقول بان اقتصاد تلك المدن اعتمد على شهرة المنطقة بصناعة الخمور وتجارتها والتي ضعفت أحوالها كثيرا مع مجي الإسلام مما أدى إلى الضعف الاقتصادي والهجرة .
الفرضية الثالثة والتي ترجح الاضطهاد الديني ما زالت تثير الكثير من الشكوك و خصوصا انه لدينا أمثلة كثيرة عن استمرار المراكز الدينية المسيحية في سورية بعد الفتح الإسلامي وخصوصا في جنوب سورية والأمثلة كبيرة وواضحة كصيدنايا و معلولا .
وبالعودة للمدن المنسية نوجه دعوة للجميع للاطلاع على هذه المدن المتميزة فعلا بفنونها وعمارتها وخصوصا كنائسها المتواجدة بكثرة والتي تعطي صورة واضحة عن الدور الكبير الذي لعبته سوريا في انتشار المسيحية و انتشار العمارة الكنسية في العالم .
و أخيرا أوجه اعتذاري لهذه المدن الجميلة و أقول لها لا تلومينا على الإهمال و التهميش الذي تتعرضين له فقبل الاهتمام بك علينا الاهتمام بأنفسنا أكثر و توسيع وعينا و أفاقنا حتى نستطيع تذوق الأشياء الجميلة الموجودة لدينا والتي لا نعرف قيمتها.
المسكون بحب سورية والمحمل بأوجاع الغربة سليمان غانم