التجول في شوارع دمشق وفي أسواقها وإن كان يبهج الروح ويسعد النفس ويشعرها بالطمأنينة والحبور كما هو مألوف منذ آلاف السنين ولعل ما يلفت في هذه المدينة أن اللغة العربية هي لسانها وقلمها وهي رسمها وفنها ونحتها وجزء بارز من جمالها وشخصيتها ثقافة وعلما ودينا . وبالتدريج ظاهرة غريبة بدأت تنتشر وأنا أراقبها وأقول في نفسي إنها ظاهرة تتسم بالسذاجة والسخافة ! وهل خطر ببال القارئ أو السامع ما هي تلك الظاهرة المريبة والخطرة ؟
إنها زحف يشبه هبوب ريح مليئة بالغبار الأسود وقد تسرب إلى تسميات المحال التجارية والشركات والفنادق . وأول ما يلفت للنظر هو ما نراه على الشاشات وعلى ألسنة بعض الفنانين والمفروض أن الفنان يمتلك الذوق والغيرة وسلوك نحو الهدف الذي يخدم مصلحة الوطن والمواطن وكل القيم القومية والوطنية والأخلاقية لكن البعض قد سقط في امتحان احترامه للغته.
اللغة العربية وهي أهم ما يمكن للإنسان العربي أن يفتخر به، إن الدور الذي يؤديه الفنان عبر استخدام المفردات الإنكليزية إضافة إلى اللهجات العامية التي تجعل هذا الفن هزيلا. إن هذا الاستخدام لا يدل على إبداع أو عبقرية ، والمدهش أن الذي تبع هؤلاء هم بعض المذيعين أيضا في قنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية عربية بما فيها محطات (الحشك فشك) كما يسميها الصحفي والفنان فيصل القاسم
لقد خطر ببالي وهل لخطيب المسجد أن يسقط أيضا في هذا. وفي حال حصول هذا..! هل سنبكي أم سنضحك !!؟
علينا أن نتذكر دائما أن هذا الاتجاه المستهتر بلغتنا هو منحى سلوكي خاطئ ما كان ليحدث لولا أن ثلاثي الإجرام الدولي يقف وراءه ويشجع عليه عبر أدوات منها الخفي ومنها الظاهر.
إن التحالف الأنكلوسكسوني الصهيوني يبذل جهودا ونشاطا ليقضي نهائيا على الشخصية العربية في كل المجالات وعبر كل السبل وقد يكون عبر ما يسمى عولمة أو من خلالها أمركة، والدواعي عند هذا التحالف معروفة منذ ظهور النفط وظهور الصهيونية، هذا عدا عن حقد تاريخي إجرامي على الثقافة العربية والتاريخ العربي والإسلامي , إضافة إلى الخوف من القومية العربية وصوتها المدوي والذي يرعبهم ويرعب أدوات إجرامهم وعملائهم في العالم العربي.
إننا نتذكر لحن الأناشيد والأغاني القومية كيف كانت قد أرقصت حتى العلم وأنعشت الجماهير وجعلتها تتنفس عطرا وتعيش تفاؤلا وأملا. إن الأعداء يعرفون ما حققوا من انتصارات على الأمة العربية في تجزئتها وإفشال محاولات وحدتها ووصول خدام عتاة إلى حكم بعض دولها ذات الأهمية النفطية أو السكانية الكبرى وبناء عشرات القواعد العسكرية سرية التسليح!! لتجثم على صدر الأمة وتحمي مصالح أعداء الأمة .
كثيرا من الموانع سقطت في مواجهة التحالف المذكور ولكن المانع المستعصي على هؤلاء الأعداء هو الثقافة العربية ووعاؤها العظيم ( اللغة العربية) وإذا سقط هذا المانع سقطت الأمة كلها وسقط تاريخها، هذا الرمز القومي المتين إنه اللغة العربية ( الإطار الموحد الجامع الباقي ) وأخشى أنه لم يبقى سواه وأرجو أن أكون مخطئا . أدهشني ما سمعت من إحدى النساء أخيرا تقول لصديقتها لا تضيعي وقت أولادك في دراسة العربية بل علميهم الإنكليزية فقط ..! ما دامت قد وصلت هذه الأفكار إلى امرأة ساذجة جاهلة فهذا يعني أن نقاط الضعف تكمن في الجهل والتخلف فينا وليس في لغتنا ولا في ثقافتنا .
لقد رأيت رجلا آخر متدين ساذج وغير متعلم وقد افتتح محلا تجاريا سماه (فود ستي) بالأحرف الإنكليزية وهكذا ستي مول ، تاون سنتر. فور سزن، شام سنتر ..احد المحلات في شارع الحمراء علق على واجهته قائمة بالمعروض فيه من بضاعة باللغة الأجنبية بما في ذلك المقاسات. حتى أن عامل محطة الوقود سألني أأملاها فول فقلت له لا أملأها حمص! وفي إحدى المرات جلست إلى أحد المدراء في إحدى دوائر مدينة دمشق وقد دخل عليه مدير آخر وقال له لقد أتتنا معاملة لشركة سميت باسم أجنبي وهذا بالقانون ممنوع ، عندما سمعت ذلك أبديت استغرابي ..! كيف يمكن أن يكون لدينا قانونا جيدا بهذا وقد انتشرت التسميات في دمشق كانتشار النار في الهشيم وفجأة نظرا كليهما مستغربين ! ماذا تقول يا رجل ؟! هذا ممنوع ..! عندها قلت لهما أعذراني فلعلكما تعيشان في إحدى القرى البعيدة!!.
أصبت بالدهشة عندما رأيت الدفاتر المدرسية وبالإجمال مصنوعة وكأنها لأطفال وتلاميذ بريطانيين وقد امتلأت على أغلفتها وحتى في داخلها عبارات وتسميات ودعايات باللغة الإنكليزية وكيف تجرأ أصحاب المطابع فعل هذا !؟ لعلهم أمييون ولا يعرفون اللغة العربية أو أنه ليس لديهم مصممون لرسومات أغلفة الدفاتر فيسرقون الأغلفة الإنكليزية بما فيها ويتوكلون على الله. أما تزيين الألبسة فهو باللغة الأجنبية ويا للعيب من عبارات وكلمات ودعايات ما أنزلت باللغة العربية لأن اللغة العربية أرقى من هكذا كتابات وأكثر إشراقا وعزة ووقارا.
مصيبة المصائب أن أحدا امتلك من التطاول ما يكفي لحد أنه أساء إلى عربية المناهج عندما سحب الرموز بل والأحرف العربية المستعملة ومنذ عشرات السنين في مسائل وقواعد ومعادلات وتمارين مناهج الرياضيات والفيزياء وأحل محلها أحرف ورموز أجنبية، أليس هذا اختراقا ؟!. أنا لست متأكدا من أن هذا الشخص يعمل لصالح اللغة والثقافة العربية ..!! لكنني أعتقد أن المكان الطبيعي لهذا الشخص يجب أن لا يكون في التعليم.
إذا ما تتبعنا ما تقوم به ما يسمى دولة إسرائيل والتي صنعها الصهاينة وأوليائهم الغربيون فسنجد كيف أن هؤلاء الصهاينة قاموا بسعي منقطع النظير لإحياء اللغة العبرية ! اللغة التي أكل عليها الدهر وشرب ! اللغة الميتة والمنسية منذ مئات السنين فرفعوها فوق رؤوسهم وهي بالأساس ليست لغتهم لأنها سامية وهم لا يمتون إلى السامية بصلة إلا بعض من شفق عليهم الزمان واستمروا كبقايا يهود ساميين وقد لا يتجاوز عددهم النصف مليون أما الباقي فهم خزريون آسيويون اعتنقوا الديانة اليهودية في منتصف القرن السابع الميلادي وقد أضاعوا لغتهم الخزرية الأصلية نهائيا بعدما شتتهم الجيش العربي الإسلامي من منطقة شمال بحر قزوين باتجاه أعالي الفولغا في روسيا وإلى أوكرانيا وبقية مناطق أوربا الشرقية ومنها انتقلوا إلى الغرب والولايات المتحدة أخيرا، ثم إلى فلسطين بهدف إقامة الدولة التي يتوهمون أنها ستدوم ولهدف آخر هو محاربة العرب والاستمرار في إضعافهم عبر منعهم من الوحدة كبقية الأمم ..!
لقد وجد الغرب الاستعماري بهم ضالته ليحاربوا عنه. وهكذا يحافظ الصهاينة على دورهم كمرتزقة نيابة عن المستعمرين بحلف حماية مصالح يزعمون أنه أبدي . لقد وصل اهتمامهم باللغة العبرية العرجاء حدا مذهلا فكل شيء لديهم بالعبرية رغم أن الأغلبية الساحقة لم تعرف تلك اللغة لا من قريب ولا بعيد .
لقد تميزت دمشق وهي الأكثر أصالة وقدما بين مدن العالم بعربيتها وفصاحتها ولباقتها ومجمع لغتها وتعريبها للكتب والمناهج حتى في كل كلياتها ومدارسها وموادها فهل يمكن لأحد الآن أن يقترح دراسة أو تعليما بغيرها وهي مركز إشعاع اللغة العربية وفخرها؟! إلا أن يكون مهادنا أو متعاطفا مع من امتشق الخناجر للإجهاز على وعاء وحافظ العروبة والإسلام ، اللغة العربية ، لغة الأخلاق والعواطف والأديان ، لغة الشعر والدواوين، اللغة التي طورت ، حفظت و نقلت الثقافة والعلم، الفلسفة والدين بكل دقة وأمانة ووضوح عبر التاريخ.
أما الأمم التي تطورت في القرون الأخيرة فلم تتطور إلا بلغاتها هي ، وليس بلغات الآخرين ومن يتخلى عن لغته فهو كمن يسلخ جلده وليبقى عرضة للنزف والألم وسوء المصير.