انبثاق فجر العولمة والغزو المعرفي وظهور وسائل الإعلام في تسعينات القرن الماضي و تأثيرها على السواد الأعظم من الشعب من خلال التبشير و التشردق بكلمات رنانة لها وقعها كالنزاهة و الموضوعية والطموح نحو حياة أفضل
هذا جعلنا نشعر بالحنق والغيرة لأن إعلامنا ليس على هذا النحو وأدركنا مدى حجم المسافة المعرفية التي تفصلنا عن الآخر وكعادتنا نحن العرب سلمنا ووهبنا للآخر العقل والقلب ووضعنا أنفسنا في الحالة التي يريدها ونسينا أو تناسينا مقولة جبران(روح الغرب عدو وصديق لنا),لكن مع مرور الأيام و إتضاح الصورة أكثر فأكثر و ما رأيناه من الإبتعاد عن الحقيقة من قبل بعض القنوات التي مافتئت تعمل على تشويه و قلب الحقائق و الإنحراف عن أسس قواعد العمل المهني وكذلك سبر أغوار الدوافع التي تقف وراء تغطية حدث ما و الإنتقائية في اختيار المواضيع بل حتى الضيوف, جعلنا نشعر بالحنين إلى إعلامنا العربي السوري,رغم مآخذنا الكثيرة عليه(قد يبدو الأمر للبعض مضحكا للوهلة الأولى), لسبب واحد و بسيط هو أن على امتداد تاريخ العمل الإعلامي السوري لم يقم بالتحريض أو التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد على عكس ما يقوم به الإعلام الآخر ولم تعسكر البتة سوريا وسائلها الإعلامية.
لا ننكر التأثير الإيجابي لهذا الغزو المعرفي الذي أيقظ مداركنا ونبه عقولنا,أقول ذلك لكي لا أتهم بأننا ضد الآخر والانفتاح,بل ضد من يحاول تجييش و استغلال الوجه الآخر لأدوات المعرفة لبث السموم والنيل من أمن واستقرار الوطن.
نعم ,نقولها ولا حرج في ذلك أن الإعلام السوري كان يلفظ أنفاسه الأخيرة ويحتضر لأسباب جمة لعل أهمها عقلية القائمين كما أشرت في مقالة سابقة وتأخر كثيرا في تثبيت نفسه ووضع قدم له على الخارطة الإعلامية ,و لكن بالمقابل و كما يقال (أن تبدأ متأخرا خيرا من أن لا تبدأ) و ها نحن الآن نرى في إعلامنا السوري ملامح التغيير و مواكبة التطورات بموضوعية و حيادية نسبية إلى حد ما(يعلم الجميع أن لا يوجد قناة إعلامية حيادية 100%) ولكن ما حققناه في سوريا إلى الآن ,باعتراف العديد من المحللين والمراقبين,هو قفزة نوعية كبيرة مقارنة بالوضع اليائس والعقيم الذي كان عليه ومازال الطريق شاقا و طويلا ولكن كما يقال :التشخيص الصحيح للمرض وحسن الإبتداء هو نصف الشفاء والنجاح .
قد لا يقنع هذا الكلام بعض الناس, لإعتبارات نعرفها جميعا ونتفهمها لعل أهمها انهيار ثقة المواطن السوري بإعلامه. لكن ما لا أفهمه هو لماذا لا نقف إلى جانب إعلامنا ونمنحه الفرصة للوصول إلى ما نصبو إليه؟ ولماذا نقلل من شأن ما قام به إعلامنا, بالرغم من إمكانياته المتواضعة, من تفنيد ما تتناقله القنوات الأخرى وكشف الأسباب الكامنة وراء الحملة المسعورة ضد سوريا؟ ولماذا لا نتعامل بجدية مع مبادرات القيادة السورية التي دعت الجميع للحوار تحت قبة الوطن؟
واجب على أبناء الوطن مؤازرة بلدهم وخاصة في المحن والأزمات,الجميع يريد أن يرى بلده قويا ومتقدما,لكن كيف لوطن أن يكون كبيرا بأبناء صغار؟ علينا أن نميز بين الحرية و الفوضى وبين الإصلاح والتخريب وعدم اقتراف جرائم باسم الحرية..لا نريد لبننة سوريا(مع كل حبي واحترامي لهذا البلد العظيم ولشعبه الوفي حقا الذي انبرى مدافعا عن سوريا ومترفعا عن بعض الأخطاء التي عكرت صفو العلاقة بين البلدين ) ويصبح القدح والقذف والذم من سمات الحرية والإنتماء للطائفية لا للوطن.
لا نريد الحرية التي لا تراعي الضوابط والحدود. الحرية هي قبل كل شيء التزام واحترام ومسؤولية وبناء ونقد موضوعي بناء وغيرة على الوطن, لا تخريب وتأليب وقتل وتكفير وهدم. ما لفائدة من الحرية إذا لم تبن الأوطان؟ رحم الله شاعرنا الذي قال: وهل يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟ قبل تسونامي الإضطرابات كنت ألقي بالمسؤولية على الأنظمة كافة بدون استثناء التي لم تستجيب لمطالب الشعب وتلبي طموحاتهم,إلا أن بعد الأحداث واستجابة الأنظمة لمعظم المطالب المشروعة لم أفهم عقلية التواقيين للتغيير وبدل التعاطي بواقعية مع هذه المطالب تعاملوا بصلف وصفاقة وفوقية ووفروا المناخ الملائم والذريعة للتدخل الأجنبي.
قلت منذ اليوم الأول أن على الأنظمة عدم الإستخفاف بمطالب الشعب وعلى الشعب عدم المبالغة بمطالبه ومن يدرك ويستوعب هذه المعادلة فلا خوف على الوطن.أتسأل وأطرح السؤال للجميع هل الوضع في مصر وليبيا واليمن والبحرين والعراق وسوريا أفضل من قبل؟ أجزم أن قسم كبير من أبناء هذه البلدان يتمنى عودة الوضع إلى ما كان عليه سابقا ولا يريد إلا الأمان والإستقرار.
يخالجني شعورا بالخوف والقلق عندما أتذكر مقولة(رب دهر بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه). نتمنى أن تكون تداعيات هذه الأزمة المترعة بالجراح إيجابية على المشهد السوري ونستنبط الحلول للحيلولة دون الوقوع في أخطاء الماضي. وقعنا تحت براثن الاستعمار العثماني والفرنسي والإنكليزي والأمريكي والإسرائيلي لعقود فماذا كانت النتيجة؟
أنريد أن نرجع عقارب الساعة للوراء وعودة سياسة الوصايا وإملاء الشروط؟ هل يريد الأجنبي الخير لنا ولأمتنا العربية؟ من قسمنا إلى دول ويعمل على تجزئتنا إلى دويلات؟ من الذي سلب أرضنا وشردنا؟ أين الغرب مما يجري لأشقائنا في فلسطين ولبنان والعراق والصومال والبلدان الأخرى؟ قد يقول قائل بأن سبب تخلفنا هو أنظمتنا,نعم,ولكن هل يؤخذ البلد بجربرة فرد؟ أقول أن الأنظمة تأتي وتذهب,أما الوطن إن ذهب فلن يعود(لا يسعني إلا أن أكرر ما قاله الشهيد كمال جنبلاط:اللهم اشهد أني بلغت)
دعونا نصلح يومنا بطريقة حضارية تتماشى مع الواقع ليصلح غدنا ومستقبلنا ولنرى وطننا في مصافي الدول المتطورة وهذا ممكن جدا في ظل قيادة قومية وطنية شابة واعدة و صاغية لكل طرح ومبادرة وحضور الوعي لدى أبناء وطننا الغالي.
أختم بالقول أن وطننا سوريا كان و سيبقى مدرسة تعلم الإلتزام والأخلاق و الإنتماء إلى الحضن العربي القومي وعجبي من بعض الأفراد الذين يحاولون ركوب الموجة غير آبهين بوطنهم وأمنه وهويتهم. لله در شاعرنا عندما يقول:
عجبي لسوري يحقر نفسه والخلق يجسد للتراب السوري.