(بخروجك الآن يمكنني أن أغلق بوابة الجامعة و أنا مطمئن)
كلمات كان يرددها حارس جامعة أفنيون على مسمع صفوك في الثامنة من مساء كل يوم ... فقد كان صفوك أول من يدخل الى الجامعة وكان آخر من يخرج منها لدرجة أن حارس الجامعة كان يتأكد بخروجه من أن الجامعة قد خلت تماما فيغلقها و هو مطمئن...
لم تكن هذه عادة مؤقتة و إنما سلوك دراسي قاس اتبعه صفوك خلال سنوات إيفاده الستة دون كلل أو ملل لم يقعده يوما ارهاق أو مرض.. كما لم تغريه أبدا نزهة أو متعة مهما كبرت أو صغرت عن تواجد مستمر في المخبر حتى اعترف الفرنسيون يوما و قالوا لطلابهم : الفضل للسوريين في بقاء مخبرنا مفتوحا دوما، لولاهم لما نجح مخبرنا في اثبات جديته .
صفوك هذا الشاب الريفي من مواليد قرية الطريف، ناحية التبني التابعة لدير الزور، خرج من عائلة مزارعة و مكافحة شأنها شأن كل العائلات الريفية المتناثرة على مدى الوطن الغالي، تلك العائلة وكما كل عائلات الوطن التي تقيم علاقات طيبة مع الأرض، تنبع في أفرادها الطيبة و تنبت في قلوبهم الأخلاق الكريمة، فالأرض التي نحاورها كريفيين تهدينا مع بساطة أحلامنا وجوها بيضاء و قلوبا أبيض..
في يوم 27 أيلول 1976 كانت أول صرخاته ... و في 11 أيار 2011 كانت آخر تلك الصرخات .. و بين تلك الصرختين كان هناك الكثير من الأمل مع كثير من الألم ... و لا يمكننا أن نأخذ مكان صفوك لنحكم على حجم السعادة أو التعاسة التي احتلت سنواته التي لم تصل بعد الى الخامسة و الثلاثين.. لكن ربما صوت الفنان العراقي ياس خضر الذي كان يعشقه و يرافقه أحيانا في لحظات عمله كان يساعده في التعبير عن ألم ما قد تكون قساوة الحياة التي واجهته سببا له...
لم أكن أعرف صفوك مسبقا... أقصد أن لحظة معرفتي به كانت فرنسية النكهة، و قد التقيته لأول مرة في الكروس (منظمة وطنية تعنى بشؤون الطلاب الفرنسيين و الأجانب) .. حدثته بالفرنسية رغم تلعثمنا بتلك اللغة في لحظة الوصول حتى تأكدت بأنه من أبناء بلدي... كان أول طالب سوري وطأ جامعة أفنيون... و كنت قد لحقته بعد أيام قليلة.. حينها روى لي كيف كان يقضي يومه على فطيرة عنب واحدة لا تشبع عصفورا، فمدام سادات في تلك الفترة من الزمن (منسقة مع الجانب الفرنسي) نصحتنا بعدم اصطحاب مبالغ ضخمة الى بلاد الغربة، و رحمة بوضع أهالينا كنا نكتفي بأخذ مبالغ بسيطة لنفاجأ بعدها بورطة مالية في انتظارنا... كان صفوك عزيز النفس و يحب الاعتماد على ذاته و كان هو من يقدم المساعدة للجميع دون أن يطلب مساعدة الآخرين حتى قال لي انه عندما التقيته لأول مرة وجد نفسه مرتبكا لأنه اعتقد أنني سأطلب منه مساعدة مادية و هو لا يجد ما يسد به رمقه خلال اليوم..
كان صفوك موفدا للحصول على شهادة الدكتوراه في الاستشعار عن بعد، و عند بداية عمله على الصور الفضائية أتت المخابرات الفرنسية الى استاذه المشرف (جويل شار) محاولة ايهامه بأنه قد يكون جاسوسا سوريا ليس الا، الا أن استاذه في تلك الايام دافع عنه و استطاع ان يقنع المخابرات الفرنسية بأنه لا خطورة على أمن فرنسا من الطالب صفوك الخليفة...
كان انسانا عاشقا لعمله لدرجة لا توصف... لدرجة أنه في كثير من الأيام كان العمل يشغله حتى عن تناول الطعام، و اعتقد ان ساعات عمله لم تكن تقل عن 18 ساعة يوميا بما فيها العطلة الأسبوعية و العطل الرسمية طويلة كانت ام قصيرة، كان قليل المشاركة للنزهات أو لجلسات الاصدقاء لأنه ببساطة كان يجد متعته الأكبر في العمل و البحث العلمي، وفي كل مرة كنا نريده أن يشارك معنا كان يتدخل الجميع لإقناعه بالمشاركة، لكن صفوك كان يعتذر منا بكل ود مشتكيا من حجم العمل الذي ينتظره...
كان أول من عمل على برنامج ايكوجينشن (البرنامج الأحدث في معالجة الصور الفضائية) في مخبر الجيوماتيك في أفنيون، حيث أن المخبر اشترى له هذا البرنامج بعشرات الآلاف من اليورو لتنفيذ بحثه حول التوسع العمراني لمدينة أفنيون، كما ركز في بحثه على منهج جديد كان يستهويه لدرجة كبيرة و هو
(Analyses fractales)على الرغم من أن استاذه المشرف (جويل شار) و في كلمته التأبينية التي خرجت بعد أسبوع من استشهاده كان يرى بأن صفوك لم يكن مضطرا أبدا للخوض في هذه المنهجية البحثية في اطروحته، الا أن الفضول العلمي لديه و حبه اللا محدود للتعلم و البحث كان يجعله متأثرا دائما بمنهجية بعض الباحثين المتمكنين في فرنسا في مجال اختصاصه من امثال (فيليب مارتان، كريستين فوارون و غيرهما ).
كانت لديه صفات الباحث الحقيقي بكل معنى الكلمة فهو لا يكل و لا يمل ...ولا يقف عند سقف علمي.. فالشيء الوحيد الذي يحبه الى درجة العشق و الذي يجد فيه سعادته الحقيقة هو عمله و بحثه . ... و كانت الكثير من الافكار البحثية تشغله و يخطط لتنفيذها في سوريا الذي كان مصرا على العودة اليها و الارتماء في حضنها لأخذ قسط من الراحة بعد سنوات العمل الصعبة... و لكن
اذكر تماما ما قاله لي مرة تحت وطأة معاناته مع العمل: (أشعر بأنني لن أعيش طويلا) ضحكت حينها لأخرجه من كآبة تلك العبارة و قلت له معك حق فأذناك صغيراتان ، و لدينا في القرية يقولون انه لا يستمر في الحياة الا من كان له أذنان كبيرتان، و بعدها أخبرته أن عبارته هذه تتحدث عني كذلك، فيبدو أننا جميعا نشعر بأننا لن نعيش طويلا و علينا الا نستسلم للفكرة ... الا أن للأنقياء أحاسيس لا تكذب...
زميلتنا هبة و في لحظة استشهاده أرادت أن تهدأ من صراخي و تسكت حرقتها فقالت لي يا ايلين: ان صفوك كالملائكة و الملائكة لا تعيش على الأرض فمن الطبيعي أن يرحل مبكرا...
أما صديقه د رشيد كتب مرة ليقول أن حرقِة في القلب ستبقى حتى نلتقي ثانية...
أعان الله زوجتك و والديك و أخوتك يا صفوك... و تبا لكل يد قاتلة... تبا لأولئك الذين باعوا وطننا... سحقا لأولئك الذين يدعون الديمقراطية و الإنسانية و يضحكون على شعبنا بأوهام لا أرجل لها على الأرض...
الموت كل الموت لأولئك الذين من أجل مصالحهم الشخصية البحتة تاجروا بالدم السوري حتى لو كان دخولهم الى سوريا على طريق مفروش بجثث السوريين....