لن يصدقني أحد.. و لم أجرؤ القول لأحد... لكن هذا ما حدث .. كنت أقف في المكان الذي يحب صفوك الوقوف فيه بعد ان استيقظت في الصباح و النار تستعر في داخلي.. لا أدري ما حصل و لكن نظرت الى يدي فرأيت شعرة سوداء قصيرة تشبه تلك الشعرات التي تساقطت من رأس صفوك بين صفحات القرآن الكريم عندما كان يقرأ القرآن في فرنسا.. أمام دهشتي أدرت يدي و اذ على الوجه الآخر أرى كمية من الشعر تشبه ذلك الذي كان يخرج من آلة الحلاقة عندما كنت أنظفها له...
حادثة أخرى.. كان مقررا أن تلتقي بي السيدة أسماء الاسد.. و لأجل هذا قطعت مسافة طويلة بين دير الزور و دمشق مع ابني زين.. و مشكلة غثيان السفر كانت تضطرني للاقياء أحيانا، و لكن عند دخولي الى دمشق و في منطقة معينة بدأت أتقيأ بطريقة جعلتني اشعر بأن روحي تخرج مني، و راح زين ولدي يبكي و يقترب مني لمواساتي.. و لكن فجأة بدأت أشم رائحة صفوك .. و الله انها رائحته.. لا ادري كيف استعدت قوتي.. في طريق العودة فقط علمت بان المكان الذي شممت رائحة صفوك فيه هو مقر كتيبته العسكرية قبل ان ينتقل الى حمص ليستشهد هناك...
اعتدت أن أتحدث الى فاطمة زوجة صفوك كل بضعة أيام.. .. فهي لم تخسر زوجا فقط.. و انما خسرت حبيبا انتظرته 7 سنوات ... و كنت أعتقد أن صفوك لم يمت لوحده .. فليس بالضرورة أن نكون في القبور حتى نكون أمواتا...
كنت استمع إلى حديثها بصمت.. لم تشأ فاطمة إقحام نفسها في إقناعي .. فكانت تظن أن تلك ليست إلا محاولة خاسرة .. و لكني أكدت لها بأن الحب له كل الاستثناءات .. و بلغة الحب لا مكان للأوهام أو التخيلات...
أتعرفين (قالت لي) : لو عاد صفوك الى الحياة و كانت لي فرصة للخيار بين موتي أو موته.. لتركته يموت مجددا.. لأنني لا أريد له كل هذا الجحيم الذي أعيشه من بعده .. آمل ان تكون روحه مطمئنة الآن كيف لا و قد قال لي مرة: إن من يموت يرتاح
عندما تحب المرأة تصبح مثل فاطمة.. فيدخل الموت أو عدمه ضمن مقاييس تضحيتها
وعدها صفوك أن يكتب قصتهما يوما.. و لكن من "يؤمنون بالحرية" قتلوه.. ولم يتركوه يكتب تلك القصة .. لا بل لم يتركوه يعيشها... و بعد ان كانت تعد فاطمة ما بقي من الأيام كي ينهي حبيبها الخدمة العسكرية و يعود اليها... كما عدت الأيام في سنوات سبع قبل ذلك عندما كان صفوك موفدا و انتظرت عودته إلى سوريا... عادت لتعد الأيام من جديد و لكن هذه المرة كي ترحل هي إليه... هذا ما استطاع "المؤمنون بالحرية" أن يهدوها اياه كعربون عن الديمقراطية و الثورة و التغيير...
و كم من الهدايا قدمت هذه ' الثورة ' الى ابناء الشعب و بناته ، و كم من القصص و الآمال احرقتها تلك ' الثورة ' و كم من الأشخاص ماتوا مع الذين ماتوا بأيدي تلك ' الثورة '
سألتها كيف كان صفوك يرى ما يجري في سوريا .. و قلت لها بصراحة هناك من يتبنى فكرة الفضائيات بقتل الجيش لبعض افراده... ثم عندما وضعت اسم صفوق الخليفة على محرك البحث جوجل أفاجئ ببعض المنتديات و المواقع وضعت اسمه كضابط منشق مع 35 من عناصره و قد قتله الجيش... أجابتني بكل بساطة كما حدثها هو بكل بساطة قائلا: لم يحدث كل هذا في سوريا .. إننا بخير فلم كل هذا الجنون!! تذكرته حين دفاعه عن سوريا عندما اتهمنا العالم بأسره باغتيال الحريري.. كان الفرنسيون يصرون على اتهامنا حينها و كان مصرا على إقناعهم بأنهم لا يعرفون من السياسة إلا ما تريد لهم حكوماتهم أن يعرفوه ...
قالت لي بأنه في الساعات التي سبقت استشهاده كان مازال يبكي زميله العسكري الذي قتله المسلحون أمام عينيه قبل 15 يوما، و عندما أتت لحظة المهمة طلب منه رئيسه بالا ينزل الى الشارع لأنه كان مرهقا لكنه أبى أن يجلس كالنساء فكان ذلك آخر كلماته أما آخر رغباته فكان الانتقام لصديقه و الانتقام لسوريا
لقد كانت أياماً لا تنسى يا صفوك.. و لم يكن أحد بيننا يعتقد في ذلك الزمن القريب أنك سترحل مبكرا جدا في سبيل هذا الوطن ... في سبيل سوريا التي شكرتها في صفحة الشكر في أول صفحات أطروحتك عندما كتبت:
"Sans la confiance de mon pays, la Syrie, je n’aurais pas pu faire mes études à l’étranger. J’adresse donc toutes mes reconnaissances sincères, fidèles à ce pays magnifique"
(بدون ثقة بلدي سوريا، لم أكن لأستطيع إكمال دراستي في الخارج، لذلك أتوجه بخالص امتناني و اخلاصي الى هذا البلد الرائع)
لقد كنت كريما .. و لم تكتف بشكر سوريا في كلمات .. فشكرتها بكل ما لديك فسالت دماؤك على تربتها و خرجت روحك الى سمائها .. أما بعضنا فراح يشكر سوريا في مظاهرات تخرج ضد النظام و هو مازال قابعا في بلد الإيفاد، أملا منهم في ان يسقط النظام و تسقط معه التزاماتهم تجاه سوريا.. فبرأيهم المنحة الدراسية حق لهم و واجب على الدولة .. هم لا يخافون على سوريا يا صفوك فهناك حيث يقبعون توجد بلدانا تستضيفهم و هناك شعوبا لا تفهم حقيقة ما يجري فتتعاطف معهم .. هم يا صفوك يعيشون سوريا اليوم بعقلية الزمن الذي ودعوها فيه.. و سريرتهم التي لم تصف حتى لقضيتهم التي يتبنوها تجعلهم يريدون اسقاط النظام حتى لو كان ثمن ذلك اسقاطا لسوريا...
لن يسقط النظام لأن الكرماء مازالوا يدافعون عنه... و لن تنجح المعارضة لأن البخلاء مازالوا يستغلون قضيتها..
لا تحزني فاطمة فستكون لقصتك كلمات أخرى في وقت لاحق.. لكن شاء القدر أن يكون لحبك لصفوك مذاق الوطن...