1ـ الضــحــيــة
خرج يبحث عن رزقه و رزق عياله، كالمعتاد مشى بجوار الحائط تقريبا ملتصقا به، دائما يمشي بجوار الحائط، دائما يشعر أنه في خطر، يشعر كما لو كانت هناك قوى كبيرة غامضة تتربص به رغم أنه لم يضر أحد، كل ما يبغيه وجبة تسد رمقه و رمق أسرته.
لأنه يشعر دائما أنه ضحية تجد حركاته متوجسة و يكثر من التلفت حوله، شاربه متهدل عيناه جاحظتان و ينعكس فيهما الخوف من المجهول، يشعر بالضآلة بالمقارنة بما حوله، لا شأن له بما يحدث حوله في العالم، كل ما يطمح إليه أن يعيش دون أن يضايقه أحد، و أن يجد القوت لنفسه و لأسرته.
لا أحد يدري إذا كان هو نفسه يدرك مدى بؤس حياته أم أنه من كثرة تعايشه مع أحاسيس الخوف و الحاجة أصبحت هذه الأحاسيس عادة بالنسبة له، أصبحت هي حياته.
أثناء سيره رأى قطعة لحم معروضة، رائحتها شهية، مضت مدة طويلة لم يذق هو و أسرته اللحم، خلال الفترة السابقة كان كل قوتهم كسرات الخبز و أحيانا قطعة من الجـُـبن القديم، هل يمكنه أن يعود لأسرته بقطعة اللحم المعروضة، اقترب منها، ما أن لمسها حتى شعر بألم فظيع و فرقعة هائلة أعقبها ظلام أبدي.
عندما لم يعد وليفها، اضطرت أنثى الفأر أن تخرج بنفسها لتبحث لأولادها عن طعام، لم تنسى أن تسير هي الأخرى بجوار الحائط.
2ـ الشيخ برهان و الدب عنتر (قصة قديمة جديدة)
الشيخ برهان شيخ الطريقة، رجل طيب جميل حكيم يشع من وجهه النور، ابتسامته ساحرة تبعث الراحة في نفس من يتعامل معه أو حتى يراه، الشيخ برهان له أتباع و مريدين كثيرين، و لكن حتى هؤلاء الذين ليس من أتباعه و لا مريديه يكنون له الحب و الاحترام.
الغريب أن أتباع و مريدين الشيخ لم يقتصروا على الآدميين، فهناك دُب اسمه عنتر أصبح من مريدي الشيخ، و عنتر نفسه منظره مهيب و لكن تفكيره يبقى تفكير دُب، كانت حماسة عنتر للشيخ برهان لا حدود لها، يتبعه في كل مكان، ينظر إليه في إعجاب و إكبار، أحيانا كثيرة يحمل عنه كتاب الحكمة الضخم المليء بالتوجيهات و المواعظ و أسرار الحياة، ترى هل كان الشيخ متبرما من صحبة الدب الدائمة و لكن لأدبه و رقته رفض أن يكسر بخاطره و أن يطلب منه الاحتفاظ بمسافة معينة بينهما!! الغريب أن الدب تعلم الكلام و القراءة و لكن لا أحد يستطيع أن يجزم إذا كان يفهم ما يقرأ أم لا.
اعتبر كثير من أتباع و مريدي الشيخ أن مقدرة عنتر على الكلام و القراءة هي كرامة من كرامات الشيخ و إن كان البعض الآخر اعتبرها ظاهرة غير مناسبة حيث من الطبيعي أن يعيش الدب في الخلاء بعيدا عن الناس و ألا يأتي بتصرفات مفروض أنها قاصرة على الآدميين. أغلب الناس أيضا لاحظوا أن عنتر قد بدأ يضيق و يتذمر من مريدي الشيخ برهان الآخرين بالذات عندما يوجهوا سؤال للشيخ أو يناقشونه في أمر من الأمور.
في يوم مشمس جميل سار الشيخ برهان في الغابة القريبة يتأمل الطبيعة و يستمتع بها بينما عنتر يسير خلفه حاملا كتاب الحكمة الضخم و قد تعلق بصره به و في عينيه نظرات متيمة بالحب و الإكبار، بعد فترة استلقى الشيخ تحت ظل شجرة و راح في نوم عميق بينما عنتر يقرأ في كتاب الحكمة و من وقت لآخر ينظر إلى شيخه بإعجاب ووله.
حـَـوْل وجه الشيخ برهان المضيء و الذي تحيط به ذقن بيضاء مهيبة حامت فراشة كبيرة ملونة جذبها إلى الشيخ جمال و بهاء طلعته، و كأنها أرادت أن تستبدل الأزهار التي تحط عليها عادة بوجه الشيخ الجميل فحطت على جبهته، منظر الفراشة الكبيرة الملونة على جبهة الشيخ رائع و منسجم مع جمال الطبيعة المحيطة بهما و يوحي بالسلام و السكينة، و لكن الواضح أن الدب عنتر كان له رأي آخر فعندما وقع نظره على الفراشة واقفة على جبهة الشيخ غضب و اعتبر أن هذا تطاولا منها على شيخه، أغلق عنتر كتاب الحكمة بهدوء ثم رفعه و هوى به بكل قوته على الفراشة.
برشاقة و خفة طارت الفراشة قبل أن تصيبها ضربة الدب عنتر، أثناء طيرانها أخذت تتساءل عن سبب تصرف الدُب هذا و تطلب من الله الرحمة للشيخ برهان.
3ـ مستعمرة النمل (قصة أخرى قديمة جديدة)
زعموا أن مستعمرة من النمل كانت تقع على مشارف إحدى الغابات، كعادتهم كان النمل دءوبا و دائم العمل، إخلاص النمل في عمله كان مضرب الأمثال، يبحثون عما يمكن أكله، يأكلون جزأ منه و يحتفظون بالباقي كي يأكلوه في فصل الشتاء عندما يشتد البرد و تنعدم مصادر الغذاء، غير أن الإخلاص و التفاني في العمل لم يشمل جميع أفراد المستعمرة، فقد كان هناك جماعة منهم يطلق عليهم "الفهالوة" دأبت على اللعب و اللهو و الراحة و لم تضع في اعتبارها المستقبل و لا ماذا ستأكل عندما يحل الشتاء، و رغم أن باقي النمل قد نصحوهم بتخزين القوت لوقت الحاجة، إلا أنهم استمروا يمارسون الحياة السهلة و لم ينصتوا لصوت العقل.
و بالفعل حل الشتاء، و ندر الطعام، و لم يجد العابثون ما يقتاتون به، بينما باقي النمل يقتاتون من مخزون الطعام الذي تعبوا في جمعِه، مات أغلب الفهالوة بينما عانى من نجى منهم معاناة شديدة.
انتهى الشتاء و حل الربيع و تبعه الصيف، الغريب أن من نجى من الفهالوة لم يغيروا طريقة حياتهم، كرروا ما فعلوه في السنة الماضية، نفس اللعب و اللهو و الاسترخاء، تعجب باقي النمل من سلوك هؤلاء العابثين، تساءل البعض " ألم يتعلموا درسا من الشتاء الماضي؟ ".
و الواقع أن الفهالوة قد تعلموا فعلا درسا مما حدث لهم الشتاء الماضي، فعندما حل الشتاء مرة أخرى توجهوا إلى باقي النمل من العاملين الجادين و طلبوا منهم بجرأة و تبجح أن يشاركوهم في قوتهم، عندما رفض النمل المشاركة حيث ليس لديهم فائض تـوَجَه الفهالوة إلى الغراب الذي يقيم بجوار مستعمرة النمل و الذي اتخذوه حليفا، أخبروه عن مكان تخزين النمل لقوتهم فهاجم الغراب النمل المسالم، اغتصب قوتهم و أقتسمه مع حلفاءه الفهالوة. لم يكن في وسع النمل المقاومة المجدية، القليلون الذين حاولوا الدفاع عن قوتهم قتلهم الغراب، الباقي عانى عناء شديدا من قلة الطعام و من ظلم و غدر إخوانهم.
ما زال الفهالوة متحالفين مع الغراب و ما زال النمل يعمل بدأب و صبر و تفاني و ما زال يعاني.