طالت فترة معيشتي في الخارج، ربع قرن تقريبا، لكني ما زالت كلما أنزل زيارة لمدينتي و مررت بجوار بيتها أتذكرها و أتمنى أن ألتقي بها، لا أدري إذا كانت هذه الرغبة حنين لرؤية "أماني" نفسها أم حنين للماضي و للذكريات القديمة.
كانت و ما زالت صديقة لأختي بالإضافة لكونها جارتنا، رقيقة جميلة و لكن ما ميزها وقتها عن أغلب البنات كان قوة شخصيتها و اتزانها، أحيانا كنت أجد قوة شخصيتها و اتزانها أكثر من اللازم رغم أنهما قد يكونا هما السبب في انجذابي لها، عندما أسترجع علاقتي الوجيزة معها أستغرب كيف تبقي ذكريات حب قصير العمر كل هذه السنوات.
في الواقع يداخلني الشك الآن إذا كنت قد وقعت في حبها أم في حب فكرة الحب نفسها، حيث كان المجتمع وقتها يدعو للحب و يباركه، تسمع ذلك في أغاني الغرام و تشاهده في الأفلام الرومانسية، المهم أنها ملكت علي أفكاري و جعلتني أسهر الليالي حالما بالتواصل معها و الذي قد يؤدي إلى حب متبادل يقود إلى الزواج، آه على أحلام الشباب و بساطتها و روعتها
عند مروري أمام بيتها هذه المرة سرحت بخواطري في الماضي الجميل أيام الدراسة بالجامعة، تذكرت بإعزاز شعبيتي بين زميلاتي و زملائي، حبهم لي و إعجابهم بى بسبب مرحي و تهريجي الدائمين ، أثناء المحاضرات و الفصول كان هناك تـَوَقُع من زملائي أني سأقدم على تعليق ساخر أو قفشه تثير الضحك و تخفف من جدية الدرس، يستمر التهريج بل يزيد خارج الفصول و المدرجات، تذكرت كوني دائما محور انتباه مجموعة الزملاء و الأصدقاء ، و ما تبع ذلك من إعجاب الزميلات بى، بعد كل هذه السنوات ما زلت مفتونا بذلك الزمن.
و لكن ذكريات الماضي ليست كلها سعادة و مرح، تذكرت لقائي مع "أماني" في كليتها عدة مرات وسط زملائها، تفكيري الدائم فيها، محاولتي أن أعرف أخبارها و كل شيء عنها من أختي ثم لقائي بها على انفراد في كافيتريا بوسط البلد، ما زلت أذكر تفاصيل اللقاء....
جاءت كعادتها رقيقة جميلة هادئة و واثقة من نفسها، انطلاقي و مرحي و نكاتي و قفشاتي طغت على جلستنا، كان رد فعل "أماني" إلى حد ما متحفظ و مهذب، ابتسمت لنكاتي و ضحكت أحيانا لتعليقاتي، من خلال كلامها معي تأكد لي مدى نضجها و عقلها بطريقة غير مألوفة لمن في سنها، انتهى اللقاء و أنا في قمة السعادة، شعرت أني أحرزت تقدما نحو تكوين علاقة معها.
استغربت عندما تجنبت الانفراد بى بعد ذلك اللقاء، لم أدرك السبب حني صارحتني أختي أن أماني أخبرتها أنها أثناء لقاءها بى وجدتني كثير التهريج بطريقة لا تتناسب مع شخصيتها!!
إذا ما اعتقدت أنه خفة دمي التي أشتهر و أفخر بها أصبحت عيب في، ترى ما ذا كانت كلمات أماني بالضبط؟ هل أخبرت أختي أنها وجدتني تافه؟ مسخرة؟ هزوء؟ و ماذا علي أن أفعل؟ هل أحاول مرة أخرى و أحرص على أن يكون أكثر اتزانا و جدية؟تذكرت كيف آلمتني هذه الواقعة، ترى إذا لقيتها الآن صدفة هل ستعرفني و هل سأعرفها، أعلم عن طريق أختي أنها تزوجت بعد سفري بأشهر و أنها ناجحة في عملها و سعيدة في زواجها و عندها ابن وابنة.
لا أدرى إذا كانت تتابع أخباري كما أتابع أخبارها، يهمني أن تعرف أني أيضا ناجح في حياتي رغم أني لم أتخلى عن تهريجي و نكاتي. فوظيفتي محترمة و حالتي المادية جيدة و حياتي الزوجية معقولة و أبنائي مصدر سعادة دائمة لي. تملكتني رغبة صبيانية أن تكون "أماني" قد شعرت بالندم لأنها رفضت حبي، سألت نفسي ترى هل لو كانت الأمور صارت كما أحلم و انتهت علاقتنا بالزواج أأكون أسعد حالا معها عما أنا عليه الآن، ضايقني السؤال أحسست أنه سؤال غير أخلاقي و إن كان هناك صوت خافت قادم من أعماقي يرد علي باستحياء بأني بالتأكيد كنت سأجد فيها الصديقة بالإضافة للزوجة و هذا ما أفتقده الآن.
تعددت زياراتي لمصر و لكن لم يصادفني الحظ أن أراها بعد، فهل يحدث اللقاء هذه المرة؟
من العادات التي أحرص عليها أثناء زياراتي لمصر أن أذهب إلى أحد محال التصوير كي تــُـأخذ لي صورة، إنها طريقتي في الاحتفاظ بذكرى من الزيارة، يدفعني إلى ذلك أيضا أن أسعار الصـُوَر هنا أقل بكثير عما هي عليه حيث أعيش بالإضافة لأن اهتمام المصور بالصورة و بوضع الزبون و بالإضاءة اهتمام كبير ينعكس على جودة الصــُورة وهو ما أفتقده هناك.
دخلت إلى محل التصوير، نفس المحل الذي تعاملت معه من قبل عدة مرات، كان صاحب المحل مشغول مع أحد الزبائن فوقفت عدة دقائق أتأمل ما حولي، عشرات الصور معروضة في المحل، أناس مختلفون في أوضاع متباينة كل يحاول أن يظهر في مظهر جميل أنيق، تـُرى أتعكس الصورة صفات صاحبها؟ هل يمكن الحكم على شخصية الإنسان بالنظر لصورته، قطع تفكيري انصراف الزبون فتقدمت من المصور و حييته:
ـ مساء الخير، كالمعتاد أريد صورة نصفية، و لكن هذه المـَـرَة أرجوك أن تظهرني في منتهى الوسامة، إنسي الواقع أو غَيَـرُه المهم أن أظهر وسيم.
ابتسم المصور في أدب، لا أدري إذا كانت مداعبتي قد أعجبته أم أن الرجل يجاملني، لاحظت أن هناك فتاة تعمل معه تجلس على الخزنة لتحاسب الزبائن، انطلقت ضاحكة من مداعبتي، أكملت الحديث:
ـ أعني صورة عندما تراها النساء تقع في غرامي مباشرة، و يا ليتك تضعها في نافذة العرض عندك و تضع معها رقم تليفوني.
انفجرت الفتاة ضاحكة، بينما أجاب الرجل بابتسامته المجاملة:
ـ إنشاء الله تعجبك الصورة.
أجبته:
ـ المهم أن تعجب الجنس اللطيف، أنت تعرف بعد خمسة و عشرين سنة تأبيدة جواز يجب أن يتطلع الزوج إلى . . .
قاطعني صوت من خلفي:
ـ مساء الخير و حمدا لله على سلامتك.
نظرت خلفي كي أجد "أماني"، جميلة رقيقة زادتها السنون بهاء و لم تقلل من جمالها نظراتها مازالت عاقلة، و ابتسامتها رزينة، أكملت:
ـ كيف حالك و ماذا عن أخبارك؟
هل ابتسامتها فيها نوع من اللوم؟ هل تقل لي بطريقة غير مباشرة "أما زلت مهرج كعادتك"، كان يجب أن أرد فقلت مرحبا:
ـ أنا بخير و الحمد لله، سعيد جدا لرؤيتك بعد كل هذه السنين، ما أخبارك أنت، أسمع عنك باستمرار من أختي.
فتاة المحل تتابع الموقف بانتباه و على وجهها ابتسامة كبيرة، كما لو كان ما يحدث أمامها شيء مـُـسَلي، أظهر المصور رغبته في أخذ صورتي فتبعته للداخل بعد أن حييت "أماني" و ودعتها.
في اليوم التالي ذهبت لاستلام الصُوَر، نظرت إلى الصورة، بالتأكيد لا أبدو وسيما و يجب أن أنسى أي إعجاب بالصورة من الجنس الآخر، حملقت فيها بإمعان، أبدو عجوزا أكثر مما ظننت، تعكس صورتي أيضا حزنا خفيا و إرهاقا و خيبة أمل.
غادرت المحل و أنا أنظر للصورة في يدي بإعجابٍ شديد.