امسك محمد مقود سيارته الذي صاحبه عمراً طويلاً من الزمن, حتى يخيل إليك أن هذا المقود غدا جزءاً أساسياً من جسده, وليس من هيكل سيارته , تلك الصديقة المرتبة والتي تختلف عن سيارات الإجرة الأخرى, فهي تمتاز بنظافتها وعطرها, وكيف لا وهو إضافة لكونه سائق تكسي فهو خريج جامعي موظف مثقف معروف عنه الترتيب والإتقان بكل تفاصيل حياته .
علّق صاحبنا نظره وهو يقود مركبته, بآخر الطريق, مستسلماً لما يبثه له المذياع من أغاني, وقد كان البث على غير عادته- نظراً للظروف- وطنياً بامتياز , الحلم العربي ....
اجيال ورا اجيال ... ح تعيش على حلمنا
واللي نقوله اليوم ... محسوب على عمرنا
جايز ظلام الليل ... يبعدنا يوم انما
يقدر شعاع النور ... يوصل لأبعد سما
دا حلمنا طول عمرنا ... حضن يضمنا كلنا كلنا
لحظتها جرت قشعريرة اجتاحت كل مسام في جسمه ....الحلم العربي ذاك الحلم المؤرق الجميل كما أحلام العشاق المستحيلة
قُطعت لحظة الغرام الوطنية تلك بأحدهم دون أن تستمر طويلاً, حيث علا تصفيره فوق صوت المذياع, رغبة في ارتياد سيارة الإجرة وعلى الفور هّدأ محمد من سرعة سيارته, ليستجيب لداعي الرزق, فيفتح هذا المواطن العربي باب السيارة ويجلس بالقرب من السائق ....تراه يشاركه هذا الحلم النبيل, وأول ما قام به أخونا المواطن العربي -من الأجيال ورا أجيال -غيّر المحطة ودونما استئذان إلى محطة فقش ورقش مبتسماً ابتسامة بلهاء, قائلاً: يا أخي صرعونا بهذه الترهات بلا حلم عربي بلا اميريكي .
لتصدح إحداهن ((لا تجبلي الشكيلاطا لا بلاش يا ولاه .....)) سعد مواطننا بهذه الكلمات فقد عبر عن مضمون الحل بداخله, وبدأ يشارك بالإيقاع حتى كاد يرقص إلا قليلاً .
وللحظة سأل محمد نفسه :أليست الشكولا حلماً عربياً أيضاً ؟ وكسرعة من يلتقط برغوثاً كاد يقرصه ليعفسه بكفه رمى تلك الفكرة.
ونظر إليه غاضباً ..عابساً.. مكفهراً ..من ضحالة حلمه وكردة فعل غير متوقعة أوقف السيارة وقال له :
تفضل انزل .....الأخ المواطن لازال يوزع ابتساماته البلهاء ورد عليه: يا أخي أنت مخطئ لا أريد النزول هنا, لازال المكان بعيداً, عندها رد عليه صاحب الحلم العربي .....وأنا لا يشرفني إيصالك لأي مكان سوى جهنم علك تريح وترتاح هناك.
وبدأ السباب العربي ونزل المبتسم الذي غدا مستنكراً من السيارة, وكاد يأخذ معه باب السيارة لو لا لطف الله .
وأكمل صاحبنا طريقه, وأعاد المحطة السابقة ليجد أن الأغنية قد انتهت, وان برنامجاً يختص بشكاوى المواطنين بوشر ببثه على الهواء...و النقاش يدور عن أزمة السكن ..أزمة السير ...ومشاكل المواطنين .
تأوه محمد ... آه هي هموم المواطنين التي تحجب الحلم العربي عن الواجهة أليس كذلك !!
هكذا بدأ يحدث نفسه, أم تراه يبرر, وأسئلة كحوامات الهيلوكبتر تدور فوق رأسه مستعدة للقصف حالاً, أتراك تستطع الحلم بمآل الوطن إن لم يكن لديك سكنا؟ ...أو تراك تنعم بنعمة الحلم وأنت ترتجف بردا بسبب أسعار الوقود؟
أو... أو .......
أدار المحطة حزينا مكتئبا ....ليسلم نفسه للأحلام الصغيرة نظراً لمصادرة الأحلام الكبيرة في واقعنا العربي, مدركاً أنه حتى الأحلام الصغيرة غدت غير ممكنة.