يعود ظهور مفهوم العَلْمانية إلى العصور الوسطى وتحديداً في العام 1648 عند توقيع صلح "وستفاليا" الذي أنهى الحروب الأهلية في أوروبا وقاد إلى ظهور الدولة القومية الحديثة.
يقول د. عبد الوهاب المسيري في كتابه العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، المجلد الأول، ص 5 " انتشرت في الآونة الأخيرة مصطلحات مثل: التحديث والتنوير والعقلانية والعَلْمانية ... إلخ. وأحرز المصطلح الأخير على وجه الخصوص شيوعاً غير عادي في منطقتنا العربية والإسلامية، بل على مستوى العالم، بحيث أصبح واحداً من أهم المصطلحات في الخطاب التحليلي (الاجتماعي والسياسي والفلسفي) الحديث في الشرق والغرب".
ويقول في كتاب العلمانية تحت المجهر الذي اشترك في تأليفه مع الدكتور عزيز العظمة، ص 11-15 " يرد في المعجم الفكري والسياسي العربي عدة مصطلحات مثل "الاستنارة" و"التحديث" و"العولمة" شاع استخدامها، وانقسم الناس بخصوصها بين مؤيد ومعارض.
ولعل من أكثر المصطلحات شيوعاً وإثارة للفرقة مصطلح "العَلْمانية" الذي يتم الحوار أو الشجار بخصوصه بحدة واضحة، تعطي الانطباع بأن هذا المصطلح محدد المعاني والأبعاد والتضمينات. ولكن إذا دققنا النظر قليلاً، وجدنا أن الأمر أبعد ما يكون عن ذاك، والمصطلح هو ترجمة لكلمة Secularism الإنجليزية، وكان معنى المصطلح في البداية محدود الدلالة ولا يتسم بأي نوع من أنواع الشمول أو الإبهام، إذ تمت الإشارة إلى "علمنة" ممتلكات الكنيسة وحسب، بمعنى "نقلها إلى سلطات غير دينية"، أي إلى سلطة الدولة أو الدول التي لا تخضع لسلطة الكنيسة.
وفي فرنسا، في القرن الثامن عشر، أصبحت الكلمة تعني (من وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية) "المصادرة غير الشرعية لممتلكات الكنيسة". أما من وجهة نظر المفكرين الفرنسيين المدافعين عن مثل الاستنارة والعقلانية المادية والمعروفين باسم "الفلاسفة" (ويشار إليهم أيضاً باسم "الموسوعيين")، فإن الكلمة كانت تعني "المصادرة الشرعية لممتلكات الكنيسة لصالح الدولة". ولكن المجال الدلالي للكلمة اتسع، وبدأت تتجه الكلمة نحو مزيد من التركيب والإبهام على يد جون هوليوك (1817 – 1906) أول من صك المصطلح بمعناه الحديث وحوّله إلى أحد أهم المصطلحات في الخطاب السياسي والاجتماعي والفلسفي الغربي.
وقد حاول هوليوك أن يأتي بتعريف تصوَّر أنه محايد تماماً (ليست له علاقة بمصطلحات مثل "ملحد" أو "لا أدري"). فعرَّف العَلْمانية بأنها: "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الإيمان، سواء بالقبول أو الرفض". والحديث عن "إصلاح حال الإنسان" ليس حديثاً محايداً كما قد يبدو لأوّل وهلة، فهو يفترض وجود نموذج متكامل ورؤية شاملة (للإنسان والكون) ومنظومة معرفية قيمية يمكن "إصلاح حال الإنسان" حسبها.
والتطور اللاحق لمعنى المصطلح لم يساعد الأمر كثيراً، فقد تقلص عند بعض المفكرين بحيث أصبح يعني "فصل الدين عن الدولة". وهي من أكثر التعريفات شيوعاً للعَلْمانية في العالم، سواء في الغرب أو في الشرق".
وقد تماثلت معاني هذه الكلمة في مصادر عالمية معروفة. ففي قاموس المورد تعني حرفياً "الدنيوية" أو "المذهب الدنيوي". وفي دائرة المعارف البريطانية "هي حركة اجتماعية هدفها توجيه الناس إلى الاهتمام بالدنيا وعدم الاهتمام بالآخرة مضفية على نفسها نزعة إنسانية". أما في قاموس أوكسفورد، فتعني دنيوي، مادي، و لا ينبغي للدين أن يكون أساس التربية والأخلاق.
أما عربياً، فقد اعتمد مجمع اللغة العربية تعريف العَلْمانية بأنها " مشتقة من العَلْم، أي العالم أو الدنيا، والعلماني هو خلاف الديني أو الكهنوتي". "ومن هنا يتبين أن ضبط المصطلح (العِلمانية) بالكسر خطأ من وجهين: 1. أن العِلمانية بالكسر هي في الإنجليزية Scientisism، وليس Seculaism وتعني بالعربية المذهب العلمي. 2. ان هذا الخطأ المتعمد يراد به التعمية أحياناً حتى يظن القارئ أنه المذهب العلمي الذي يعلي من شأن العلم.، لترويجه وضمان قبوله لدى المثقفين. وقد أدى هذا الخلط المتعمد إلى انقسام الناس إلى مؤيد ومعارض للعلمانية(1)"
. ومما تقدم وبالاستناد إلى مراجع أخرى (2)، يتبين أن العَلمانية اسم لمذهب (فكري، عقدي، اجتماعي) يهدف إلى حمل الناس على إبعاد الدين عن حياتهم ويهدف سياسياً واقتصادياً إلى جعل القوانين الوضعية هي أساس السياسة والاقتصاد دون الاستناد إلى الدين. كما يهدف اجتماعياً وتربوياً إلى خلق نظام اجتماعي يستمد قيَمَه من الفلسفات البشرية وأسس التضامن الاجتماعي وصرف الناس عن العمل للآخرة وقصر اهتمامهم على ملذات الحياة. كما يهدف إلى قصر الإيمان بالمادة المحسوسة ورفض الإيمان بما لا يدرَك.
ويعود ظهور العلمانية في أوروبا إلى الأسباب التالية:
1. فقدان الثقة في الكنيسة كمصدر للمعرفة وسلطة للتوجيه.
2. نمو البحث العلمي المضاد للفكر الكنسي الديني، وانبهار الناس بنتائجه القريبة من الفهم والإدراك.
3. اتخاذ الأوروبيين موقف العداء تجاه الدين ورجاله.
4. نجاح الثورة الفرنسية في إقامة أول دولة لا دينية في أوروبا.
5. نظرية التطور التي كانت إيذاناً بانتهاء وصاية الكنيسة الفكرية على أوروبا وانسحابها من الميدان إلى الأبد.
(1) التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن الكريم، عرض ونقد، منى الشافعي، جامعة الأزهر، 1429 هـ، ص 44.
(2) سقوط العلمانية، أنور الجندي، بيروت، 1973. العلمانية-نشاتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، د. سفر الحوالي، 1998.