ذكرنا في مقالنا السابق كيفية دخول مفهوم العلمانية إلى البلاد العربية وفيم تجلّـت من تيارين رئيسين هما "تيار التنوير العَـلْـماني" و "حركة الإصلاح الديني". في هذا المقال سوف نذكر بتفصيل أكبر ما هي العوامل الداخلية والخارجية التي أدت إلى انتشار هذا المفهوم بشكل كبير وخصوصاً بين أوساط المتعلمين والمثقفين العرب والتي من بينها: (1) سياسة الدولة العثمانية، (2) الغزو العسكري الأوروبي المباشر، (3) التبشير والإرساليات المسيحية الأوروبية، (4) علم الاستشراق الأوروبي.
لقد عانى العرب من الظلم الشديد والتجهيل والإفقار في فترة الاحتلال العثماني والسيطرة عليهم باسم الدين حتى أن دولة عربية مثل مصر قد خلت من خمسين مهنة بسبب نقل من يعمل بها إلى عاصمة الدولة العثمانية.
يصف الجبرتي[1] في تاريخه الأوضاع التي كانت سائدة في مصر خلال القرن التاسع عشر وأحوال من كان يفترض بهم أن يكونوا حريصين على الدين قائلاً: " لأنه لمّا ابتدع المغارم والشهريات على القرى ومظالم الكشوفية ، جعل ذلك عاماً على جميع الالتزامات والحصص التي بأيدي جميع الناس، ما عدا الحصص التي كانت للمشايخ... واغترّوا بذلك، واعتقدوا دوامه، وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المحتاجين بدون القيمة، وافتتنوا بالدنيا، وهجروا مذاكرة المسائل، ومدارسة العلم..إلاّ بمقدار حفظ الناموس، مع ترك العمل بالكلية"..
"وارتكابهم الأمور المخلَّة بالمروءة، المسقطة للعدالة: كالاجتماع في سماع الملاهي والأغاني، وإعطاء الجوائز والنقوط بمناداة الخلبوص وقوله وهو يخاطب رئيسة المغاني ويسمعه القاصي والداني: "يا ستي، حضرة شيخ الإسلام والمسلمين .. مفيد الطالبين: الشيخ العلاّمة فلان ...إلخ".
أما الغزو العسكري الأوروبي، فقد بدأ بالحروب الصليبية تحت راية الدين والانتصار لبيت المقدس، وانتهى في تلك الفترة إلى استغلال كل الظروف الداخلية للدولة العثمانية وعلاقتها غير الجيدة مع العرب وصعود القومية العربية، لتسويق مفهومها الجديد بالحديد والبارود حيناً وبالخطاب حيناً آخر تحت شعارات الأخوة والإنسانية.
ولا يمكن إنكار الدور الهام والكبير الذي لعبته الإرساليات التبشيرية والتي كانت رأس حربة متقدم للفكر التوسعي الأوروبي. أما علم الاستشراق، فلم يكن حيادياً في معظمه، كونه صمم أساساً لدراسة أحوال الدول التي كان الأوروبيون يخططون للسيطرة عليها.
" لقد جاء الغرب في مطلع القرن الماضي، بعد أن كانت الأمة قد تهيأت لاستقباله طويلاً بكل أسباب الوهن والموات. كانت دفقة الحيوية الهائلة والعريضة قد تم سحقها إلى حد بعيد تحت مطارق الاستبداد والقهر وكانت شريعة التوحيد الصافية والبسيطة المستمدة أساساً من النص الخالص، قد شابها كدر كثيف فتضاءلت مساحة الحق خلف ركام من الروايات وأقوال الرجال. وكانت مفردات كثيرة من مباهج القيم العليا كالحرية والعدالة والعلم والحضارة وحمْـل أمانة الخير إلى هذه البشرية، قد خَفُتَ وهجها في ذاكرة الوعي العام"[2].
وبعد أن رحل الغرب بقواته العسكرية عن الدول العربية تاركاً إياها بدون هوية واضحة، تابعة له في إنتاجها الاقتصادي والزراعي والفكري، ترك في معظم هذه الدول طبقة من المتفرنسين أو المتأنكلزين أو المتعاطفين كي تكون حريصة على تطبيق ما أدخله الغازي أو المستعمر بأسم تحضير البلدان العربية المتخلفة.
ولمّـا كان التناقض واضحاً بين ما تؤمن به الأكثرية غير الحاكمة وبين ما تؤمن به الأقلية المستغربة الحاكمة، فإن الوصول حتى إلى حل توافقي يضمن حرية التعبير والتفكير والإبداع لم يكن ممكناً، على الرغم من أن محتوى دساتير بعض الدول العربية التي لم تعتبر الإسلام مصدراً للتشريع كان يشير إلى ضمان حرية التعبير والتفكير والإبداع.
وبتضافر ذلك مع فشل المشاريع الوطنية والوحدوية لتشكيل الهوية الوطنية والحضارية العربية، فإن الهوّة بين الحاكم والمحكوم قد اتسعت وظهرت في صورة عودة مكثفة إلى الدين باعتباره الضمانة الوحيدة للحفاظ على الانتماء الفردي والوطني والقومي.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن بعض الأنظمة الوطنية والتي حاولت أن تشقّ مساراً خاصاً بها معتمدة على توافقية الحكم استناداً إلى التشريع الديني الإسلامي وما أدخل من التشريعات المدنية الأوروبية، اصطدمت باتجاهات متطرفة وصّـفت نفسها بأنها الناطقة باسم الدين الحقّ وأنها صاحبة الحقيقة المطلقة.
ومن الجدير ذكره، أنه ورغم محاولات بعض الأنظمة الوطنية تحقيق العدالة بأسلوبها الخاص، إلاّ أنها لم تكن قادرة على إعطاء مساحة أكبر من حرية التعبير والإبداع لظروف داخلية وخارجية. إضافة أنها لم تنجح في الاقتراب من الجماهير بسبب حالة الاستعلاء الفكرية والسلوكية التي وَصَمَتْ قادتها ومفكريها، وأن الجماهير بحاجة إلى من يقودها وأنها غير قادرة على قيادة نفسها.
وكما أنّ ما أطلقنا عليه اسم النظم الوطنية لم يستطع الوصول إلى الجماهير بسبب انغلاقه أيضاً وبعده عن الحوار وخوفه من أن تظهر عيوبه، كذلك فإن الحركات والتيارات الإسلامية بشكل عام لم تكن قادرة على تفعيل الجماهير بالشكل المطلوب من خلال تفعيل قدرتها على التفكير والإبداع، بل على العكس من ذلك، عملت على تكريس تبعية هذه الجماهير المحتاجة إلى إي شعاع من الضوء للغيبي.
وعملت على ترهيب هذه الجماهير من خلال أحاديث نبوية غير متفق على صحتها، أو من خلال تفاسير غير واضحة خاصة بهم لآيات من القرآن الكريم. وقد عملت بعض التيارات أو المذاهب الإسلامية على محاولة فرض وجهة نظرها لقراءة التاريخ الإسلامي والتفسير والتشريع والأحاديث النبوية مدعومة بسلطة رأس المال وتكفير كل من يقول بعكس ذلك.
إن كثيراً من التيارات الفكرية الإسلامية التي حاولت تنشيط المناخ الفكري السائد -منذ بداية الإسلام السياسي- والإتيان بأساليب وقراءات جديدة للفكر الإسلامي-وكما حدث أيضاً في الأديان الأخرى- قد اتُهمَت بالزندقة والكفر والارتداد ومخالفة الجماعة. وفي الحقيقة من الصعب الحكم على ذلك من خلال روايات تاريخية كتبها على الأغلب المنتصر.
من هنا نكتشف عمق الأزمة بين من يحاولون أن يحكموا ويقودوا الجماهير باسم التاريخية الدينية –والذين نجحوا إلى حد بعيد نتيجة سياسة الإغراء والترهيب وسياسة التجهيل المنهجية- وأولئك الذين يحاولون أن يحكموا ويقودوا الجماهير باسم العَـلْـمانية –والذين انتهوا أيضاً إلى كل الأشكال الممكنة من الديكتاتورية نتيجة سياسة القمع والتجهيل والتغريب-.
"يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني، أفلا يكون للقاضي أو للمفتي أو شيخ الإسلام؟ وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على تقرير العقائد والأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء، فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره"[3].
المصادر:
[1] المختار من تاريخ الجبرتي، محمد قنديل البقلي، دار الشعب، 1993، بتصرف.
[2] السلطة في الإسلام، عبد الجواد ياسين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2000، ص 7.
[3] محمد عبده، الإسلام والنصرانية، القاهرة، 1922، ص 59.