هي كلمةٌ نكرهها , وتمجّها آذانُنا , وتلفظها أسماعنا, بل نجعل أصابعنا في آذاننا, ونستغشي ثيابنا حتى لا يصل حرفٌ منها إلى مسمعنا , وحتى لا تشوّش علينا جمالَ الحياة .....
كلمة نكره أن نُنسَب إليها, أو تُنْسبَ إلينا , وإذا قيلت لإنسان فإنه يكادُ يتميز من الغيظ, وينظر إليك شزْراً , وبألمٍ دفين يعتصر فؤاده.....
كلمةٌ جعلت كثيراً من الناس يركب مطيّة اليأس , ويتخاذل , ويرجع القهقرى , بعد أن كان يُسابق الريح, ويتسلق جبال المجد السامقاتِ .....
ولعلك تقول : ليت شعري ! ما هذه الكلمة ؟ ولعمري ! لقد جعلتَني في حَيرة من أمري ! فهاتِ , أسمعْنيها بعد أن شوّقتني لمعرفتها شوقَ غيرِ محب ! وشوقَ علمٍ ومعرفةٍ لا شوق حب ولهفة !
إنها ـ يا صاحبي ـ كلمةُ ( الفشل ) وخاصةً حين تُنسب إليك , بأن يقال عنك : فاشل. أو أن يناديَك أحدٌ : أيها الفاشلُ .
فماذا تعني لك كلمةُ ( فاشلٍ ) ؟
لو طرحنا هذا السؤالَ على ثُلةٍ من الناس لرأينا أجوبةً شتّى, وآراءً مختلفةً , ومعانيَ تتوضح لإنسان قد لا تتوضح لغيره , وكلٌّ يُدلي بدلوه..
...فها هم يقولون :
ـ كلمة (فاشل) ـ بالنسبة لي ـ تعني أنني عبءٌ على المجتمع , ومماتي أفضلُ من حياتي , وعدمي خير من وجودي .....
ـ كلمة (فاشل) تعني أنني لا حظَّ لي , كلما تقدمت خطوةً تعثّرت خُطُواتٍ , وكلما أبحرت في لُجج الحياة , وظننت أنني أمْخُر عُبابَها , فإنني أرى نفسي بعد سنةٍ أنني لا أزال على الشاطئ !.
ـ كلمة (فاشل) تعني ـ بالنسبة لي وباختصار شديد ـ التعاسةَ والشقاءَ بكل ما تحمله هذه الكلمةُ من المعاني البائسة .
ـ كلمة (فاشل) تعني أنني لست بناجح , فهما حاولت أن أنجح سأبقى فاشلاً , لذلك فإنني لن أسلك طريق النجاح , لأن القدرَ رمى بي في حفرة الفاشلين , لذلك تراني دائماً أعلل نفسي بالقدَر, وأعتب على الزمان !
ـ كلمةُ (فاشل) آهٍ ! كم تؤلمتني هذه الكلمةُ ! , وليت أن العرب لم ينطقوا بها , ومَنْ لي بإنسانٍ يجتَثُّها من معاجم العربية جمعاءَ ؟
إنها الكلمةُ التي دمرت حياتي ,وجعلتني أهوي في مهاوي الشقاء بلا رحمةٍ , وبلا أدنى هوادة...
...كنت أحمل طموحاً يكاد لعلوّه يصل إلى عَنان السماء, وهمةً عاليةً لا تعرف الونى والفتورَ , وتقدّماً لا يعرف التراجع والهزيمة , لكنّ مَن حولي ـ نعم مَن حولي , ومعظمهم من أقاربي , وأغلبهم ممن يَدّعون محبتي , وأنهم يُكنون لي خالصَ الحب , وصفاءَ القلب ـ هم الذين جعلوا مني فاشلاً في الحياة ...
كانوا دائما ينعتونني بهذه الكلمة , حتى أصبحتْ كلمةُ الفشل تلازمني بل جزءاً لا يتجزأ مِنّي , وسيطر التشاؤم على حياتي , وتربع البؤسُ على عرش قلبي ....
...لقد فشلتُ مرة فلم يسامحني أحدٌ , ولم أجد يداً حانيةً تُرَبّتُ على كتفي , وتكفكف دمع عيني , وتنشُلُني من براثن اليأس..... فبقيت على هذه الحال : فشلٌ , وبؤسٌ , وتعاسةٌ , وشقاء ....
ومع مرور الأيام نزل طموحي إلى أسفل الحضيض بعد علوٍّ وارتفاع , وغرقت همتي في الانحطاط بعد أن كانت لا تعرف الوهْن والكلل, وسيطرت على كل مشاعري انهزاميّةٌ ورجعيٌّة تشبثت بي... , فنكصتُ على عَقبي بعد أن كنت أضارعُ الأتيَّ في تقدّمه, والشهاب في سرعته وعلوّه...
.. سامحوني , فالفشلُ يَرْمقني بعينين سوداوين , ولهول نَظَراته لم أسطِعْ أن أُتِـمَّ كلامي .....!؟
ـ كلمة (الفشل) تعني لي خلافَ ما تعني لكم , وبكلمة مختصرة :
لقد دخلتُ إلى ساحة المجد والعز من باب الفشل !
بمعنىً آخرَ: كان فشلي حافزاً كي أن أتقدمَ أكثرَ فأكثر , لأني لم أستسلم له, ولم أُرخِ له العنان,
ولم أهتمَّ بتمتمات الحاسدين , ولم تصغِ أذني إلى فحيح الوشاة , ومضيت في درب الحياة , فلولا مرارةُ الفشل التي أبكتني لأيام وأيام , ولولا تجرّعي من كأس الحسرة , وتضلُّعي من أجاج الْمِحَنِ الآسنِ , لما كنت اليوم أبسِم للحياة وتبسِم لي , وما كنت اليوم أرتوي من فرات النجاح المعين في كؤوس التفاؤُل والبِشْرِ والطمأنينة .
وأثناء هذا الحوار كان هناك رجلٌ يُحملق بكلتا عينيه , وقد تسمرتا في وجوه المتحاورِينَ , يُمعِن النظر فيهم وقد علاه التثاؤب , وكُسي ثوباً من الخمول , وتجلبب بالكسل , ولا يدري الفشل نفسه ماذا يفعل بهذا البائس, أيُمسكه على هُوْنٍ أم يدسّه في التراب ؟!....ثم نهض قائما بعد جهد ولَأْيٍ , وقال : أما أنا فلو سألتموني عن كلمة الفشل فسوف أقول لكم :
( كلمة فشلٍ تعني أنني فاشلٌ لأنني فاشلٌ , وسأبقى فاشلاً ما تعاقب الليل والنهار , وسأكتب في وصيتي لأولاي :
كُتب الفشل على أبيكم , فاجعلوا من الفشل قَدَرَكم , ومن القدر ذريعةً لفشلكم , ومن البؤس دِثارَكم , ومن اليأس منهجَ حياةٍ لكم !) .
... ثم مضى في طريقه يمشى على استحياءٍ , و بعد برهةٍ غاب عن أعيننا عند مفترق الطريق .......
عزيزي القارئ : وبعد هذه الجولة يبقى السؤال مطروحاً عليك :
ماذا تعني لك كلمةُ فاشلٍ , وهل تجرَّعت كأس الفشل يوماً ما ؟.