كان أبو فرح العربي، الفلاح العتيق المرتبط بأرضه حتى العظم، ينتظر فصل الربيع بفارغ الصبر، خاصة في سني الخير...
فكان يقف على سطح بيته في أعلى نقطة في القرية، ويضع كفّه فوق حاجبيه، ويتطلّع إلى السهل المنبسط أمامه، في تربة بركانية حمراء نظيفة، لا حجارة فيها كخد صبية متورد، ويقول بهمس كنسيم الربيع (لا تحلموا يا أبنائي.. لا أحد يقدر أن يقتلعني من هذا البيت، ومن هذه الأرض، والرحيل إلى العاصمة... سأتركها لكم..). وبدأ صوته يرتفع في فسحة البيت الواسعة، مما دفع أم فرح الغارقة في العمل إلى الخروج وانتظار نهاية خطاب زوجها..!
ولا يزال أبو فرح حيّاً، يجتاز عتبة ربع قرن من عمره.. نشيطاً.. يتابع الأخبار والفضائيات، خصوصاً بعد أن أصبح مشاركاً فعالاً في ثورة الاتصالات، ويلعب (بالريموت كنترول) على كيفه، ويحرك الأقمار كما يريد، لكنّه بعد أن سمع وقرأ كثيراً عن السيد نبيل العربي ودوره التحريضي ضد وطنه سورية العظيمة، التي تسكن في أعماقه منذ سبعة عقود ونيّف، تغيّرت طباعه وازداد عدد التجاعيد في وجهه. وحمل الرجل أوراقه إلى مركز النفوس، وغيَّر اسم ابنه (فرح) دون علمه، وسمَّاه (وطن). ونشر الخبر في القرية..
وكثرت التساؤلات بين الشباب أصدقاء فرح عن سبب تغيير الاسم؟ وكان الجواب واحداً موحداً، بأنه لم يعد هناك ربيع، ولا اخضرار بعد أن زار أبو وطن العاصمة، وجال به ابنه في دمشق القديمة وأنعش روحه، ثم مرره بجانب فندق الفصول الأربعة (7 نجوم).. وعندما عاد إلى القرية، بدأ يحدث زائريه عن الربيع العربي والدماء العربية، وعن العروبة (المهاجرة) من القلوب والمعاجم العربية، إذ لم يعد هناك- كما قال أبو وطن- (ما يلوّن ذاكرتنا بالفرح).. وأصبحت حياتنا مملَّحة بالفساد والقهر والغلاء وتلوث البيئة والنفوس.. وحتى القرية السارحة في فضاء صاف نقيّ، حوَّلتها العولمة المتوحشة إلى مزرعة للفساد الأخلاقي والروحي والمادي.
ويتأسف أبو وطن، بل وتتجمع تأوهاته كتلة واحدة كصخرة في حنجرته، وهو يحمل ربطة الخبز، ويتوقف أمام (البلكونة) يتذكر هذا المكان الذي كان (تنّوراً) وكيف كان يقرفص بجانب أم وطن، ويشم رائحة خبز القمح الحوراني، وزوجته تناوله رغيفاً ساخناً (مقمّراً).. ثم يحني رأسه ويضع ربطة الخبز في الثلاجة، لكنه رغم محاولته نسيان هذه الصفحات الرائعة من حياته، إلاَّ أن اليوميات العربية المُرَّة المعبدة بالدماء تعود بسرعة وتمدّ جذورها، وتكشّر عن أنيابها كما هي عليه الديمقراطية الأمريكية والأوربية والتركية. ولم ينسَ أن يقبّل حفيده ويقطف ابتسامة من ثغره،التي أطلق عليها اسم (ثمرة الصباح الجميل).. ولم ينسَ أن يتابع في هذا اليوم (24 تشرين الثاني) التهديدات المحضَّر لها في اجتماع وزراء مجلس الجامعة (الأمريكية) والعقوبات الجاهزة التي يهدَّد بها الشعبُ السوري، واللقاء المسبق بين(الشيخين الخليجي والتركي) في (أنقرة العرب) قبل يوم واحد من القرارات النهائية، كما يقول المقرّبون من أصحاب القرار.. !
باسم عبدو