1
إلى ولدي المعارض .. لا أصيح في وجهك و إنما أهمس لك .. همس المحب بأذن حبيبته في ليلة صيفية هادئة ..
ولدي المعارض .. أراك تضيع، و ربما أنا من كان يضيع.. وهذا الضياع الذي أحدثك عنه ليس إلا فقدان الماضي والذاكرة، وكل صباح يأتي علينا منذ عشرة أشهر ونيف أشعر فيه أني أفقد شيئا من ذاكرتي هناك أفقد الكثير مني؛ الشوارع المهترئة ، الإنارات الخافتة ، المباني العثمانية والفرنسية ، الأفران ، بسطات السجائر ،المقاهي الحمراء .. تلك التي تؤثث حكايات الناس ، تؤثث الناس . تلك ! أنا افقدها - و التي كنت منذ زمن ليس ببعيد أفتقدها فقط- أنا الآن أفقدها .
ولكي تعرف ما أفقده الآن، عليك أن تتلمس روحي،عليك أن تذهب لجامعة حلب ، للجديدة ، للقلعة ، لجامعة دمشق ، الحميدية ، باب توما، للسوق المسقوف ، للملعب البلدي .. لعلك تكتشف بنفسك كيف يصير للحارات، للأعمدة ، للمقاعد روح تسكنها حين يتعلق الأمر بذاكرتنا، عليك أن تحتسي القهوة على أوتار العود في دار وكيل .. أو تشرب الشاي هناك في النوفرة، أن تختبر مدرجات كلية الآداب ، و " براكات " الجامعة، وتتحدث إلى الآذن " أبو أدهم " ، عليك أن تذهب لمشاهدة مسرحية أو أمسية شعرية وان تعود إلى البيت متأخرا وأنا نائمة مطمئنة قريرة العين لتعرف ما افتقده الآن ، و على الأرجح ما ستفتقده أنت ، عليك أن تسهر في بار ما وتسكر وتحب وتكفر وتصلي وتؤمن لتعرف كيف أن سوريا منحتني حرية الإيمان والتجربة أيضا ..
قد أكون ولدت في مكان آخر .. نعم و لكن سوريا منحتني ما أنا عليه الآن، أعطتني الماء و الخبز الذي أوصلني لهذا ، وهذا يكفي لنا من الأوطان بتقديري ، في حين أنا الآن خائفة ألا تعطيك سوريا كما أعطتني على بساطته ، ألا تعطيك الفرصة لتختار ما تريد، والخيارات لا تعني فقط حرية الثرثرة السياسية في مجلس ما أو انتخاب رئيس جديد لسوريا ومجلسا للشعب، تلك ديكورات أثينا، ولو خيروني الآن بين ديمقراطية أثينا الأسطورية ، وبين أن أختار الفتى الذي أحب لكان خياري الفتى الذي أحب .. ولن تدرك ما أقول إلا في أول " كلاش عاطفي " ستأخذه إن أغرمت بفتاة من غير ملتك - على سبيل المثال - في سوريا الجديدة .
2
أحكي لك، وأنا أعرف أن الأم لا يمكن أن تكون معارضة أو موالية، أقول وأنا أعي أن الأم وطن وأن العائلة السعيدة وطن، ولا ادري كيف صرنا على جبهتين مختلفتين أنا وأنت، حتى وقت قريب كنت أظن أن سوريا جبهة واحدة وان العائلة كذلك الأمر، وان سوريا بسواحلها وجبالها وسهولها لا يمكن أن تقبل القسمة على اثنين، لا أعرف إن كانت الأوطان هي التي ما عادت أُماً أم أن الأبناء هم من لفظوا أمهم وطنهم ، الأم يا ولدي مصابة بالقلق الدائم والخوف الدائم ربما لهذا هي لا تريد ثورة ما أو حربا ما ، و لا تقل لي أن ثمارها خير عليك و على مستقبلك .. لا لن يكون جيلك هو من يجني ثمار هذه الثورة ،، و أنا كأم لا يهمني ما يأتي بعدك من أجيال .. ما يهمني هو أنت .. قد أبيع ثمار الثورة كلها مقابل " كزدورة معك " في حديقة السبيل أو في الصالحية ... ولربما يا ولدي إن لم أكن قد أصبحت أُماً في خضم هذه الأزمة لكانت رؤيتي للأحدث اختلفت .. و لربما كنت ثورجيا مثقفا " كفرزاتها " أو شعبيا كــ "ساروتها " الآن .. لربما ...
3
ولدي المعارض .. أريدك أن تعلم أنني ما قطعت كل هذه الأشواط إلا لأنجبك .. وما أنجبني أنا وأبيك إلا سوريا الماضي الذاكرة هي من أنجبتنا يا ولدي
وأخاف من الغد أن يضَيِع قصتي، تلك القصة التي أتت بك إلى الدنيا ، مشاويري مع والدك في كل مكان تعارفنا في معلولا دمشق المهددة خطوبتنا في حمص الدامية عرسنا في حلب المكبوتة ... ، همساتنا الدافئة أحاديثنا الودية نقاشاتنا الحادة .. اختلافاتنا على جنسك .. على اسمك ، على شبهك .. كل هؤلاء شاهدين على ذلك، كل شيء مرتبط بسوريا، وكل شارع في حلب أو دمشق مرتبط بذاكرتي .. بي و بك ، مواقف الباصات و السرافيس .. التكاسي الصفراء الكهلة والكتب التي قرأتها على هذه الطرقات ثمان سنوات ، كلها تضيع في تفجير واحد، تضيع في لحظة واحدة، في اللحظة التي نختار بها الفوضى..!
4
ولدي المعارض .. دمشق كل الشعر .. كله هل تعرف ؟ ذات مرة أحبني شاعر ما ، لا لم يجبني ، ربما كان مساحة للأنا والآخر ليس إلا ، كان يقول لي دائما وهو الذي لم يرشف من ماء دمشق أو حتى يشم ياسمينة منها أن سوريا تختصر الشعر ، كل الشعر هي الحلم، العشق ، الكبرياء ، القلق ، الغضب .... كان يقول لي دائما : أنت محظوظة لسببين الأول لأنك حرة العقل و القلب .. و الثاني لأنك بنت سوريا . و أظنه كان يجب أن يقدم السبب الثاني على الأول فلست حرة القلب و العقل إلا لأنني بنت سوريا .
5
أفكر الآن في قول درويش :
" لا أشياء املكها
لتملكني، لي حكمة المحكوم في الإعدام "
لكني أملك سوريا وأملكك أنت، واعرف أن الخسارة فن المهزومين، لم يكن درويش مهزوما ولا الشاعر الذي أحبني، كل ما في الأمر أن الأوطان الضائعة تعلمك التحايل على الخسارة، ولا أريد أن تصل أنت بدمشق إلى هنا، أن تصل أنت ودمشق إلى هذه الزاوية تحديدا حيث المشنقة والتاريخ ينصب لنا فخاخه ..
6
يا ولدي .. كل ما في الأمر أنني لا أريد عمرا لي ولك نضيعه في الحرب، ثمة وقت في الخارج يكفي لأفسر كلام " ابن عربي لك "، كأن أقتبس منه الآن " كل ما هو ليس مؤنث، لا يعول عليه " أو كل " ما يجلب الحريق لسوريا لا يعول عليه "، قضيت سنوات الدبلوم وأنا استعير كتاب ابن عربي من المكتبة الوطنية في حلب من مكتبة الأسد في دمشق ، ثلاث سنوات و أنا أقرأ به و لم يزعجني جندي على حاجز، أو تفجيرا مباغت في الميدان، والآن في كل تفجير وفي كل رصاصة أسمع صداها في قلبي، أشعر بان الفتوحات المكية قد ضاعت .. و أن ابن عربي بذاته قد ضاع ، تلك التفجيرات التي تحصل وستستمر تمنعني من الذهاب و لقاء ابن عربي ، أخاف رؤية مسلح في الطريق، أو رؤية رشاش على كتف فتى جامعي، أخاف المرور بحاجز أمني، وأخاف من أشياء كثيرة، أن تحترق مكتبة الأسد أمام عيني كما احترق المجمع العلمي في القاهرة أمام أعين المصريين و بأيديهم أو تضيع منا جامعة دمشق كما ضاعت جامعة بغداد من بغداد... إلى الأبد .
7
أمك تعرف كل شيء فصدقها .. قد أكون مجنونة و لكن صدقني كل ما درسته هراء، هذه الفلسفة العفنة والكلام الذي لا يقول شيئا هراء . كل هذا الكلام الذي درسني إياه غليون و الذي يسلح به الناس الآن ضد سوريتي .... هراء
8
حين كنت حبلى بك، كنت أرى كل ما حولي مساحة لك، البشر ، الأرصفة ، السيارات ،الأبراج ،المطارات ،المدن و الجامعات، ، كنت أرى في كل هذا تجربة وحياة لك.
أما اليوم أنا خائفة، لم أفكر بالخوف يوما، كنت أرى دائما ولازلت أننا " في سوريا " لم نخف قبل الآن، لذلك سأقول الخوف مثل عاطفة الأمومة لا تعرفه إلا حين تجربته، ربما علي الآن أن اعترف بذنب ليس ذنبي، حين كان الشاعر الذي أحبني يرجوني ألا اتركه، كان يرجو من الحبيبة ، الأم ، الأخت ... البلاد ألا تتركه، و أنا اليوم خائفة .. و مثله اطلب منك ، أنت الحبيب ، الصديق ، العمر ... أطلب منك .. من البلاد .. ألا تتركني ... و إن وصلته كلماتي أطلب منه السماح لأنني لم أدرك قبل الآن ما معنى أن تكون في المنفى .. أو أن تكون بلا وطن .. و على قولة " الي بشوف مصيبة غيرو بتهون عليه مصيبتو " أقول لك حيثما كنت الآن .. مصيبتنا أشد و أبلى فإن كان عدوكم ليس منكم لا دينا و لا قومية و إن كنت تشهدون قيام دولة فنحن نشهد انهيار دولة وعلى يد من ؟؟ علي يد من هم من ديننا و قوميتنا .
9
ولدي المعارض أخيراً و ليس آخراً أقول كل هذا و أنا أعرف جيدا أنني سأربيك على مبدأ(( .. أريد الحرية و لو كان ثمنها موت أمي ..))
10
سأكتبها عندما تحرق وطني يا ولدي