news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
مقالات
حكي جرايد - من لندن... بقلم : ضياء نوفل

أقلّب صفحات التايمز بين يديّ، من أوّل صفحة إلى آخر صفحة سريعاً.. كنت أبحث عن شيء محدّد، وعندما لم أجده، أعود إلى الصفحة الأولى لأقرأ ببطء العناوين الصغيرة التي ربما لم أنتبه لها. بعد أن أنتقل إلى الصفحة الثانية، أتأكّد جيّداً من التاريخ..


السبت، السابع من كانون الثاني 2012. نعم إنّه تاريخ اليوم. حتى أنني ولأول مرّة أنتبه إلى أنهم يكتبون اليوم "السبت" بلون بنفسجي على الصفحة الأولى.. وانتبهت كذلك إلى كلمتين باللون الأحمر "الطبعة العالمية"..

 

أحاول أن أنتبه إلى تفاصيل العناوين.. هناك مقال عن خليفة نيوتن واينشتاين، العالم الفيزيائي ستيفن هاوكنغ الذي قهر المرض والإعاقة العصبية القاتلة ليس ليطول عمره فقط، بل ليصبح أكبر عالم فلك في التاريخ المعاصر.. على كلّ، بالرّغم من حلاوة هذا النّوع من المقالات التي تستهويني عادةً، إلّا أنني كنت في عجلة من أمري..

 

 بماذا يا ترى يهتمّ البريطانيّون أكثر؟ فيضعونه على صدر صفحاتهم الأولى!.. هناك صورة حصان.. تقول القصّة شيئاً عن حصان محارب.. لم أقرأ ماذا يعنون بذلك. لست مهتمّاً. الخبر الكبير الآخر يقول شيئاً عن تحذير حول مخاطر الحقن التجميلية.. كلّا.. لا أستطيع حتى أن أفكّر بأهمية هذا الخبر..

 

جرائدنا لا تحمل هذا النوع من الأخبار على صدر صفحاتها الأولى. لا أزال أذكر الكليشة الموحّدة لجرائدنا المحلّيّة. في البداية أخبار الحكومة، يجب أن يكون هناك خبرٌ واحدٌ على الأقل عن الرئيس، حتى لو كان على مستوى برقيّة تهنئة باليوم الوطني لبوركينا فاسو. ولكن في أغلب الأحيان يكون أكثر من ذلك، مع صورة كبيرة لمن ودّع أو من استقبل. هناك بالطبع خبر أو اثنين عن قضيتنا المحور، قضية فلسطين، تصريح من هنا أو من هناك، شجب من هنا أو هناك، تنديد، استنكار، العدو الغاشم، القاتل، المغفّل، الإرهابي، عملية اغتيال، قصف، اختراق لجدار الصوت، عملية عسكرية، عملية جراحية، عملية سلام، لقاء، اجتماع، جامعة عربية، جامعة أجنبية، أمم متحدة.. وبالطبع هناك خبر محلي، بالإضافة إلى نشرة الأحوال الجوية.. وفي سنوات لاحقة أصبحت الجرائد المحلية تخصّص جزءاً من صفحاتها الأولى للإعلانات كنوع من مجاراة للأساليب الحديثة في الطباعة والنشر والتسويق..

 

أنا لا أتحدث عن تشرين ولا البعث ولا الثورة هنا.. التايمز لا تزال في يدي، وأنا أتحدث عن التايمز، وأبحث عن خبر فيها. قد يكون صغيراً لدرجة أنه لا أحد يقرأ بسرعة يتسنى له أن يلحظه. وقد يكون مخفياً، بقصد أو بغير قصد، بجانب أحد الإعلانات الملوّنة والمزركشة. ليست كل الإعلانات ملونة، ولا مزركشة بالطبع. وهذه المرّة تحديداً لفت انتباهي إعلان لشركة شانيل (شركة فرنسية تبيع عطوراً وحقائب فاخرة وكل شيء يتعلّق بهما.. في قرارة نفسي، لا أدري لماذا اخترت العطور والحقائب على وجه التحديد، والشركة تبيع كل ما يتصّل بزينة المرأة وبهرجتها.. إنه تأثير دبي على ذاكرتي).. المهمّ، هذا الإعلان في التايمز، كان عبارة عن كلمتين فقط!.. كلمتين على زهاء نصف صفحة طولية (شانيل........ تنزيلات) وبالأبيض والأسود، وفي الأسفل عنوان المحلات الثلاث في لندن. يعرفون مقدارهم ومنزلتهم في السوق ولا يحتاجون لكثير من الكلام، فإن أحببتم تعالوا واغتنموا فرصة تنزيلاتنا، وإن ما أحببتم فلا تأتوا ولا تغتنموا..

 رحم الله أيام إعلانات الأبيض والأسود. كانت الصحف تخصص نصف صفحة للإعلانات الرسمية وشبه الرسمية.. فلان فقد جوازه ويريد بدل ضائع، القاضي يبلّغ فلان عبر الصحف للحضور إلى جلسة محكمة بسبب جهالة محل سكنه، تعازي، تهاني، شكر وتقدير، مناقصات حكومية بالظّرف المختوم (استلزمني سنوات حتى فهمت ما المقصود بهذا الظرف) وبالطبع لا ننسى إعلان نتائج سحب اليانصيب .. جوائز الأرقام المنتهية .... رحم الله تلك الأيام.

 

 

تستوقفني كلمة خطيرة: "إيران"! هناك صورة غائمة لسفينة، كلمة أخرى صادمة "قراصنة".. وهناك خريطة تجمع إيران بالصومال. عجباً! .. المقال يقول أن البحرية الأمريكية أنقذت سفينة صيد إيرانية من قراصنة صوماليين. يا للهول! ما هذا الكوكتيل الرهيب، الذي يرقى في شدة مفعوله إلى كوكتيل ماري جين. هل هناك كوكتيل اسمه ماري جين على أية حال؟ المهم هنا أنني، أنا المتابع لكل شاردة وواردة في أخبارنا المحلية والإقليمية والعالمية، لم أسمع بهذا الخبر من أية مصدر قبل الآن. كل ما أسمعه هو التحذيرات "الشغالة" بين الطرفين. أنا أقوى.. لا أنا أقوى.. لا با أنا.. وهكذا دواليك.. أقرأ الخبر وأرفع الحاجبين واحداّ تلو الآخر.. يبدو أن ما أبحث عنه بات قريباً.. فأقلب الصفحة.

 

تصدمني صور العاهات الجلدية المعتوهة والمشوهة والمهووسة بنفخ الصدر والشفتين والأنف وأشياء أخرى عارية عن التعبير.. أقلب الصفحة بسرعة، لأن السيليكون يصيبني بالغثيان حتى بدون أن أرى الشفة المشوهة للسيدة ليزا..

 

أقلب الصفحات.. أنتبه لدميترييفا، الفتاة ذات السبع عشرة ربيعاً والتي ضاعت في بريطانيا.. يهولني حجم الضياع في هذا النصف من الكرة الأرضية لأسباب ضائعة في حدّ ذاتها.. ضائعين وتائهين وفخورين بكل شيء أودى بهم إلى هذا الضياع. بئس ما هم عليه..

 

يوخزني مخّي على كمية المعلومات التافهة التي أمتصّها، فيحثّني على التفكير بجديّة أكبر عمّا أريد أن أصل إليه. فأقلب الصفحات بسرعة أكبر. أقرّر أن ما أبحث عنه موجود في صفحة أخبار العالم، فأركّز بحثي في رأس الصفحات وأبحث عن أخبار العالم. لكني لا أستطيع أن أتخطى موضوع ستيفن هاوكنغ.. إلا بعد قراءة سريعة.. ثم كاريكاتير لم أفهمه جيّداً، هناك استعارة من فيلم كرتونيّ لم أشاهده للأسف. وسريعاً، أتخطى أخبارهم "المحليّة" وأخبار سياسيّيهم، وفنّانيهم وأطفالهم وحيواناتهم وأقفز بنهم عندما أجد كلمة "وورلد - - العالم". وتحتها صورة افريقيّة، افريقيّة بجدارة.

 

أوروبا مغرمة بإفريقيا عندما يتعلّق الأمر بالصحافة، فهي البلد الذي يستطيعون الذهاب إليه وفعل ما يريدون فعله وبأبخس الأثمان. التقيت الكثير من الأوروبيين الذين يحلمون بخيمة في صحراء افريقية. هل تتخيّلون؟ يريدون فعل لا شيء. لا شيء على وجه التّحديد. وتقولون بأنكم تعيشون الجحيم؟ هذا الجحيم له زبائن كثر في القارة الأوروبية! الصحفيون يحبّون أن يعدّوا تقارير عن المجاعات والحروب والأوضاع الإنسانية وكذلك عن القبائل البشرية المختلفة في تلك القارة. يمارسون عليهم فوقيّتهم بدون أدنى إحساس بالذّنب، وبدون أن يشعرهم أحد بدونيّة العنصريّة التي يمارسونها. بل على العكس تماماً، فالأفارقة يستقبلونهم كآلهة، كأنبياء، كسلاطين في زيارة رسميّة.. أتذكّر قصص صديقتي الصحفية البريطانية التي كانت تعمل في وقت ما في أفغانستان.. بدون أدنى شكّ في أنّ أفغانستان لم تكن يوماً ما في إفريقيا.. ولم إفريقيا بالتّحديد؟ فالأوروبيون يحبّون كل القارّات..

 

يفاجئني، في منتصف الجريدة اللندنية، قسم التسالي والأخبار الخفيفة بملحق أسبوعي.. ويزداد شعوري العارم بالغضب حين لم أجد ما أصبو إليه. أقفز وراء الملحق، أبحث أبحبش، أخبار من هنا ومن هناك. أشياء سخيفة تفرد لها مساحات واسعة وأخبار ثقيلة ترد في خمسة أسطر.. أصل إلى قسم الأعمال، ثم قسم الرياضية فأفقد الأمل ولا أجد الخبر الذي أريده.

 

كيف لا أجد الخبر الذي أريده؟ الخبر الذي هزّني هزاً. الخبر الذي من أجله راحت طبختي واحترقت بينما كنت أرتجف وأنا أقرؤه.. الخبر الذي سالت فيه دماء سوريّين، والذي ذرفت له دموع الكثيرين، والذي نسف الطمأنينة في قلوب ملايين.. لم تهتمّ هذه الصحيفة البريطانيّة ذات الطّبعة العالمية بالإشارة له.. يجتاحني شعور بالإحباط. هل كل ما يحدث في بلدي ليس شأناً مهماً بالنسبة للّذين يتبجّحون بإنسانيّتهم ورقيّهم وحضارتهم ومنجزاتهم العلمية والفلكية، واهتمامهم بقارّات العالم المسكينة وبالمرضى وبالمشوهين، وبالأحصنة وبالكلاب، ويتفاخرون بقدراتهم وقوتّهم وكذلك بتواضعهم وقلبهم الكبير إلى حد الملائكية.. أفلا ينتبهون أن هناك في بلدي دماء تسيل فيضعونها في خبر في جريدتهم.. أقذف بالجريدة فوق طاولتي .. فتصدر بثقلها حشرجة مكتومة.. وتهمد.

 

لم أقتنع،

 

عليّ أن أشفي غليلي، قد أمزقها.. قد أحرقها، ولكن ذلك لن يفيدني.. ربما كتبت رسالة إلى المحرر..

بعد دقيقة من صمت، عدت وفتحت الجريدة، ولكن هذه المرّة، وبدون أدنى جهد، وجدت الخبر،

"هجومٌ انتحاريّ قبل تقرير المراقبين".

 

خبر بائس، مشوّه، مغيّم، منبوذ، صغير، وبين إعلانين، وتحت صورة أفارقة، وقبل صفحة الأعمال مباشرة..

لم تسعني غرفتي.. لم يعد الهواء صالحاً للتنفّس.. رميت معطفي فوق كتفيّ، وخرجت هائماً في طرقاتٍ لا تعد إلّا بالصقيع..

 

لنا الله.. كم نحن غرباء في هذا النصف من العالم..

 

 

2012-01-24
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد