في المطار التقت أطياف بشرية من بلاد ما وراء البحار كانت جالسة في قاعة الانتظار لتتناقل شفاهها غرائب وعجائب الأخبار ليدورَ ما دارَ بينها من حوار.
أنطوانيت : رباه مازال هناك المتسع من الوقت، تُرى
كم الساعة الآن؟
كرم : إنها الرابعة مساءً سيدتي.
انطوانيت : لهجتك ليست من بلادي و ملامحك غريبة عن ما ألفه اجدادي، تُرى من أي أرض
أنت و بأي لغة تنادي؟
كرم : اسمي كرم من بلاد القمر وقد ساقني القدر ليحصل بيننا لقاء، فنحن مثلكم من جنس
البشر،هذا أنا بالمختصر.
انطوانيت : وانا من بلاد الشمس اسمي انطوانيت انتظر في الترانزيت، حدثني عن بلادكم
وعن آمالكم؟
كرم : علومنا و تراثنا حجر الأساس وتقاليدنا زينة لا مثيل لها كالألماس، نسائنا
تُعامل معاملة مميزة عن بقية الناس، عروقنا أصيلة كريمة لا يمكن أن تحكموا علينا
بما نرتديه اليوم من لباس.
انطوانيت :علومكم!!! أجل إنها محفوظة في عقر ديارنا مصونة، وقيم تراثكم عندنا
كالكنز المدفون، شعوبنا تداريها في العيون كاللؤلؤ المكنون، بلغتنا نطورها ثم
ننقلها إليكم فيما أنتم غافلون وعن دربكم تائهون و بماضيكم حالمون وبالأوهام
محلقون.
كرم : للأسف كلامك صحيح، فأفئدتنا وعقولنا كالطفل الجريح، وعزائنا أننا أصحاب الخلق
القويم فجذورنا قوية وروابطنا متينة وأخلاقنا حميدة وأصولنا كنبت ثابت في أرض فتية،
وما نحتاج إليه حظوظ سماوية و قدرات إلهية.
انطوانيت : إنكم تخدرون أنفسكم بالظنون وتنبشون في القبور لتبحثوا عن أخلاقكم بين
غياهب الجذور وتنسون أن الماضي مندثر ثم تحاججون من وراء قلاع التواريخ و الحصون!
دعني انصحك مستشهدةً بقول للشاعر ابن وردي الذي قال : لا تقل اصلي وفصلي أبدا * * *
إنما أصل الفتى ما قد حصل قيمة الانسان ما يحسنه * * * أكثرَ الانســــــــــــان
منه أم أقل
كرم : للأسف أصبتِ، يقول المتنبي
قَد كانَ يَمنَعُني الحَياءُ مِنَ البُكا **** فَاليَومَ يَمنَعُهُ البُكا أَن
يَمنَعا
لكن سيدتي دعيني اسرد ايجابيات بلاد القمر، إنها مهد الاديان فيها طيور الأمان تغرد
للأنام ونساؤنا ملكات في قلوب أزواجهن وعلى عروشهن متكئات ، والطاعنون في السن في
عيون عائلاتهم يسربلون بثوب الرعاية والاطمئنان ولا يُرمَون في دار المسنين ولا في
دار الأيتام، أما في بلادكم بلاد الشمس فالحكاية مختلفة ....
أنطوانيت : نساؤكم ملكات، وماذا عن رجالكم ؟ في بلاد الشمس لا فرق بين ذكر و أنثى؛
يقول المتنبي:
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ولا التذكير فخرٌ للهلال
. هذا حالنا، فلا يقاس مقام الرجل بما يملك من مال ولا الفتاة بما تحلم به من جاه، فالإنسان يوزن بما يقدمه من علم و علوم تقديراً لما خلقه الله لنا من عقول، ففي بلادنا لا ننكر العيوب ولا نتجاهل سماع صوت القلوب، فكل شيء بالقانون مكفول، والأمور تسير بنغمٍ منظوم، نسعى جاهدين للبحث عن الثغور لإيجاد مفاتيح الحلول، ولا نستحي مثلكم من الاعتراف بالنواقص بهدف إصلاح العيوب بل العار أن ننكرها لنسلط الضوء على خطأ يرتكبه "الآخرون"؛ لعلكم بحالة الإنكار تسترون نواقص أجسادكم بثوب كمال وهمي، ليت شعري هل هذا بنظركم هو المقبول! في النهاية سأنصحك مستشهدةً بقصيدة لأبي الأسود الدؤلي :
يا أيـها الرجلُ المعلمُ غيـرِه
هلا لنفسِك كان ذا التعليم لا تنـْهَ عن خُلق وتأتي بمثلِه
عارٌ عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك فانْهها عن غيهـا
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
والآن حان موعد اقلاع الطائرة لتغادر انطوانيت قاعة الترانزيت تاركةً كرم وفي البال
مليون سؤال. كذلك حالنا اليوم كالقمرمعتم بطبيعته فإذا اشرق في كبد السماء كان نوره
انعكاساً "لبريق الشمس" المتواري خلف كوكب القمر.