news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
دالين في مطار حلب الدولي...بقلم : نادين صغير

في مطارنا الدولي طيف ذكريات تروي حكايات عن فرحة لقاء ودموع رحيل، ضمة أمل ولوعة اشتياق، حقائب سفر وحلم بالاستقرار ولحظات ترقب في قاعة الانتظار.
رنت دالين بنظرها إلى لوحة المغادرين لتجد القليل من مواعيد للرحلات بالمقارنة مع ما مضى من سنين لكن الازدحام كان على عكس المتوقع نظراً لوجود الكثير من المسافرين.


دالين : ما هذا الازدحام ! أمهات مثقلات بالحقائب، أطفال يركضون وكأنهم في ساحات ملاعب، تُرى هل ينتظرون بعيداً غائباً ؟!
و في قاعة الانتظار سمعت دالين همهمات وثرثات لامرأة تتحدث عن رحيل ابنها الذي يتمتع بجنسبة أجنبية مع أطفاله إلى ديار الشمس الذهبية بسبب سوء الاوضاع الحالية.
المرأة : يا لخيبة ابني الكبيرة! لقد عاد منذ فترة وجيزة إلى بلادنا مع أطفاله لتربيتهم على تقاليدنا العريقة لكنهم صُدموا بانحطاط أخلاق أمتنا العتيقة وانعدام الأمان وكثرة اللصوصية لتصبح بلاد الشمس أكثر شروقاً من بلدنا الحبيب يا للخيبة المريبة!
الرجل : وكيف سيعيش أحفادك سيدتي مع انعدام الأخلاق بين الجنسين في بلاد الشمس البعيدة؟
المرأة : تتهمون بلاد الشمس بممارسة الرذيلة علناً وارتداء أزياء تنافي الحشمة دون حياء وتتناسون أنه في وقتنا الحالي لا يستحي البعض عندنا من ممارسة الكراهية وإراقة الدماء علناً والتعري من رداء الضمائر الإنسانية بملأ الفضاء ثم تناظرون وتحاججوهم بقمة الأخلاق.....يا للهراء!

الرجل : لن نتفاهم سيدتي، إني لا أوافقك الرأي!
المرأة : حسناً، قل لي ما هي قمة أحلامك؟
الرجل: اليوم حلمي جرة غاز وبنزين لا ينضب وكهرباء لا ينقطع على الدوام.
المرأة : من المبكي أن تصبح حقوقنا أحلاماً، بينما في بلاد الشمس يتمعتون بحياة طبيعية ويحلمون بأشياء أكثر أهمية!

فجأة قطع دردشتهما صوت يعلن موعد رحيل إحدى خطوطنا الداخلية، يبدو أن الرحلات الجوية في ربوع بلادنا الذهبية أصبحت سمتنا العصرية، ليصبح التنقل بين المحافظات القطرية أكثر أمانا ًعبر الطائرات المحلقة إلى علياء الفضاءات الكونية المُنزهة عن دنس الإنسان ورذائله الإجرامية، فلم تلوثها أرواح مشحونة بالأمراض النفسية آه يا سماء ما سر رهبتكِ القدسية؟!

وبعد رحيل الخط الداخلي أصيب المطار بحالة هدوء وسلام، ولم يعد هناك مجالاً للدردشة والكلام، فالمكان أصبح خالياً إلاّ من قلة أنام يودون الرحيل إلى بلاد الثلج في أقصى الشمال!
"النداء الأخير للمسافرين إلى بلاد الثلج الرجاء التوجه إلى بوابة رقم 5 استعدادً للرحيل!"
أهل دالين: أين هي دالين وما الذي تفعله لم يعد هناك المتسع من الوقت للرحيل؟!
كانت دالين شاردة الذهن عالقة في قاعة القادمين، وكأنها تنتظر قدوم قومٍ من المغتربين، وفي قلبها أمل بلقاء أحد المسافرين بلهفة حنين وكانت تدعو بصمتٍ رب العالمين أن تلتقي به ليصبح الجميع من المسرورين، كم أنتِ شقية يا دالين!

أخت دالين : أين أنتِ دالين؟حان موعد رحيل طائرتنا، مَنْ تنتظرين؟

كانت دالين تفكر بعمق وهي تتذكر السنوات الخالية، ثم تنهدت بزفراتٍ شاكية، وقالت :


" أختاه تتراءى في ذاكرتي صوراً كانت تبهج لرؤياها بوابة "القادمون"، كفرحة أمٍ بلقاء أولادها القاطنين في أرض باردة مقفرة من دفء ثوب ضماتها المُحاكة بلهفةِ حنانٍ وحنين، وفرحةِ رجلٍ لسماع أصداء ضحكات حفيده البعيد الذي لم يضمحل صوته بَعدْ بين زوايا منزله المشتاق لزقزقة برائته الطفولية وهمس لسانه المتحدث بلغة عربية ركيكة، وتتجلى في مخيلتي صوراً لعروس ترتقب قدوم عريسها البعيد وهي تحمل بين يديها سلة زهور بوداعة الحمامة وعيون ناصعة بحبٍ أبيض كاليمامة لتكون بعودته كأميرة مكللة على عرش السعادة، كل هؤلاء أختفوا اليوم ليصبحوا في مطارنا من عالم النسيان، فلم يعد لوجودهم في بوابة القادمين مكان، آه يا زمان"

أخت دالين : هوناً عليكِ، سيعود طيفهم يوماً ليملؤوا مطارنا سروراً وحبوراً، فللمحيطات مدٌ وجذرٌ، وللشمس شروقٌ وغروبٌ، وللقمر نقص هلال وبدر كمال، وللفصول ربيع وخريف، وللدنيا سعادة وشقاء، وللإنسان ولادة وممات، ومن سنن الحياة التقلب والتغيير، فدوام الحال منَ المُحال إلا الحق فإنه عصيٌّ على الزوال.

دالين: صدقتِ أختاه في كلامك سلواني وعزائي وبإذن الله سيتحقق مرادي، إني انتظر أيضاً قدوم مَن يهواه فؤادي، طيفه أحبه قلبي وأصبح اسمه من عالم الأمس، والأمس حلم لا يعود! رحلَ بعيداً إلى بلاد الهجرة محلقاً عبر أثير عالم النسيان لتذرف دموعي حزناً على فراقه الأبدي ليؤرق برحيله مضجعي، فلم يعد لوجوده في حياتي سوى تذكار سرمدي، أسمع كل ليلة همسه وصدى صوته متصاعداً بين خرير السواقي وحفيف الأمل الحريري، ليذكرني به عطره العالق بين نافذة دياري، يا ليت شعري كلي تفاؤل أن يعود مجدداً عسى أن لا يُخيبَ ظني ورجائي !

أخت دالين : تُرى من يكون؟ وهل يعرف هذا المجنون عن حبكِ المدفون؟

دالين : أمّا اسم الرجل الذي أحبه قلبي فهو "الأمان و الاطمئنان و بالهوية يُسمى براحة البال"، بلدي يشتاق لعودته بيننا، رحلَ منذ أكثر من عامٍ و نيف عن ديارنا إلى بلادٍ مجهولة، ولم أره منذ رحيله لكن في كل مساء يزور ذكراه حلمي بضحكته الرقيقة عسى أن يعود قريباً إلى بيوت شعبنا وقلوبنا الصغيرة عبر خطوط السعادة الجوية الوهمية، لقد طال غيابه عنا وفي كل يوم أسمع تضاريس بلادي وهي ترثي غيابه حزناً وتنشد كلاماً يقوله أحد الشعراء :

سيل الكآبة موصول بأوردتي ** وأنهر الحزن تجري في شراييني

قد صرت كتلة آلام تمزقني ** في مصلب الجرح بين الحين والحين

لا تحسبوا أن هذا الشعر يفهمني ** بل صار ينقل رسما دون تلوين

فهل تجمع في روحي وفي جسدي ** آلام عيسى ويعقوب وذا النون

أخت دالين : للأسف كلامك صحيح، كوني معي من الصابرين أختي دالين، هيا بنا نصعد إلى طائرتنا حان موعد رحيلنا ما بكِ تنسين؟

دالين: هيّا بنا!عسى نسمع عمّا قريب أخباراً تُطربنا وأشياءً تُبهجنا، فلن نيأس من الحياة بسبب ما أصابنا ولن نمنع أحلامنا من التحليق في سمائنا، كان الله في عوننا.

انطلقت الطائرة لتصبح حجم أرضنا المحبوبة في عيون راكبيها صغيرةً كحبيبات رملية متناثرة ترتدي رداء صحراوي اللون وقد تجرّع البعض من قسوة طبيعتها الجافة ليصبحوا عبيداً للحياة ولمطامعها الدنيئة لتعاني ضمائرهم رغم أموالهم من مجاعة روحية رهيبة يعيشون تحت خط الفقر بالحب ونقص حاد بالفيتامينات الروحية! والبعض ضاقت بهم دنياهم لتصبح بيوتهم الصغيرة المهجورة مطلية ببريق آمالهم وبلون طموحاتهم، أما أحاسيسهم الشخصية غنية كوردة ندية ومزركشة ببساطة أرواحهم العفوية.

وفي فجر كل يوم تولد قصة جديدة ينسج المسافرون تفاصيلها في رحاب مطاراتنا المحلية، لم تمنعهم الأزمة الآنية من التحلي بروح ثقافة الحياة الدنيوية، و كلهم ثقة أنه مهما اشتد عتم الليل سيأتي فجر ليبدد ظلمة البؤس السوداوية ليشرق عرس فرح عبر أفق الآمال الوردية.

2012-07-17
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد