ويا أبَتِي، تلاشى ذلك التَّعَبُ
كشمسٍ خلف تلك القمَّةِ الشمَّاءِ تَحتجِبُ
سنونَ العمرِ قد ذهبتْ
وأبقتْ في مُخيِّلتِي
طيوفاً من مرارتها بكَتْ في جَفْنِيَ الْهُدُبُ
أتذكُرُ يومَ أنْ كُنا
على الأبواب نرتَقِبُ؟!
نرى ظِلاًّ على الدربِ
ولهفتُنا تزيدُ، تزيدُ لَمَّا كنتَ تقتربُ
لأنكَ سوفَ تحملنا على كتفيكَ في حُبِّ
على عينيك والقلْبِ
وكنتُ أظنُّ يا أبتي
بأنِّي حين تحملُني تناجيني نجومُ الليل والشُّهُبُ
لقد كُنا نرى ظِلاًّ
فلم نكُ مرَّةً نرنو
لوجهك في النهار ضُحًى
ولا ظهراً ولا عصرا
ولا عند المغيب مَسا
فإنك دائماً تَمضي
إلى عملٍ معَ الفجْرِ
تُقَبِّلُنا, تُودِّعُنا..
ودمعةُ أُمِّنا تجري
وإنك كنتَ في حَلَكِ الدُّجى تأتي
تُطِلُّ كطلعةِ البدْرِ
وفي عينيك نَوحُ أسى
وجسمكَ هَدَّهُ التَّعَبُ
ويبسِمُ ثغرُكَ الوضَّاءُ في شغفٍ
وتضحكُ كي تُخبِّئَ عن صغارِك كل آلامٍ تُعانيها
ولكنْ كنتُ من صِغري
أرى الآلام تبدو من ثنايا البسمةِ الْحُبلى بآهاتٍ وأشجانِ
وأنَّاتٍ وأحزانِ
فمهما كنتَ - يا أبتي - تُواريها
بنورِ جبينكَ الأَسنى
وبسمةِ وجهكَ الأسمى
وثغرُك باسماً يبدو
وبلبلُ دَوحِهِ يشدُو
فكنتُ أرى ضلوعَ الصَّدْرِ تلتَهِبُ
ومقلةَ عينِكَ الوسْنى
تُكَفْكِفُ عبرةً حَرَّى
وتنفثُ زفرةً أُخرى
ومنكَ القلبُ ينتحِبُ
.. ومَرَّ العُمْرُ طيفَ كَرى
كبَرقٍ في الظلام سَرى
وأنت اليومَ قد جاوزتَ سِتِّيناً من العُمْرِ
مضَتْ.. لكنها كانت كحمْل الدَّينِ والصَّخْرِ
وتبقى أنتَ نبراساً لنا – أبتي -
تُنِيرُ حَوالكَ الدَّهْرِ
تُعلِّمنا وتُرشدنا
بعلمٍ منكَ لا تأتي به الكُتُبُ
وكنتَ تقول: أولادي
مع التَّقْوى
مع الإيمانِ بالقَدَرِ
يعيشُ المرءُ في الدنيا بلا ضنْكٍ ولا قهْرِ
وحُبُّكَ كان يُمطرنا بتحنانٍ
مدى الأيامِ لا تأتي به السُّحُبُ
نظمتُ قصيدةً لأبي
بدمعِ الحب والإخلاصِ والياقوتِ والذهبِ
ومِنْ عَرَقٍ لِجَبْهتِهِ
أخذتُ مِدادَ قافيتي
مداداً مُثقَلاً بالْهمِّ والآلام والنَّصَبِ
نظمتُ قصيدةً لأبي
ببحرٍ سوف أملؤُهُ
بمهجة قلبيَ الْمُضنى
بأوردتي
قوافيها هي الشُّهُبُ
وذي كلماتِيَ الخجلى
تقول اليوم: يا أبتي
تلاشى ذلك التَّعَبُ
تلاشى ذلكَ التَّعَبُ.