ـ كم يُفاجئنا التاريخُ بنهاياتٍ لأقوامٍ وأشخاصٍ لم تكن متوقعةً ولا في الحسبان , فنرى مَلِكاً ماتَ ذليلاً , وأميراً ماتَ منفيَّاً غريباً , وعبداً لكنَّ الموتَ لم يدركْه إلا وهو ملِكٌ , وجباناً مات ميتةَ الشجعان , وشجاعاً مات مُدبراً غير مُقبل , وغنيّاً تُصُدِّقَ عليه بكَفَنٍ , وفقيراً لم يمت إلا وهو في قصر مُنيف , وضالّاً لم يمت إلا وهو ساجدٌ في المسجد , وعالماً لم يصلِّ على جنازته إلا ثلاثةٌ فقط...
...فيا لمفاجآتِ التاريخ ! وما
ذكرتُهُ لكَ هو نزْرٌ يَسيرٌ لأن مفاجآتِ التاريخ أكثرُ من أن تُحصَى....
ـ تاريخُ الإنسان هو من يحكم عليه , فإذا أردتَ أن تعرف شخصاً ما , فانظرْ إلى
تاريخه , واقرأ سيرتَه , ولا تتسرع بالحكم عليه لموقفٍ عابرٍ رأيتَه منه , ولا
تحكمْ عليه لهفوةٍ أو نزوةٍ أو زلَّةٍ , فقد قالوا : لكلّ جوادٍ كبوةٌ , ولكل شابٍّ
صبْوةٌ... وكذلك لا تحكمْ على شخص من خلال ما يقوله الناس , ففي الناس حاسدٌ أو
شانئٌ أو مبغضٌ أو صاحب هوىً مطاعٍ ... فكم من إنسان وجدتَه بخلاف ما يقوله الناس
عنه , وذلك بعد أن تعاملتَ معه وصرتَ قريباً منه !
ـ من نظر في التاريخ رأى أن عزيزَ قومٍ ذليلٌ عند آخرين, وجاهلَ قوم عالِمٌ عند
آخرين, وكم من عظيم بين قومه وهو حقيرٌ عند غيرهم !....
ـ التاريخ يُخلِّد اثنين :
الأول : إنسانٌ زرعَ محبته في قلوب الخلق , فأنبتت ياسمينَ خلود , وخزامى ذِكْرٍ
حسنٍ , ونجوم شرف وعزة تزيّن بها جبينُ الدّهر....
والثاني : إنسان غرس أشجارَ الكراهية في قلوب الخلق فأنبتت سِدْرَ بغضاء , وأَسْلَ
حقدٍ يَحملُ ثمر الذِّكْرِ الْمَشينِ , وصار سُبَّة في جبين الدَّهر...
.. نعم , هذان الاثنان خالدان , ولكن شتَّانَ بين خلودٍ وخلود...!!
ـ من أجمل ما في التاريخ أنه لا ينسى , وأنه في الوقت ذاته لا يرحم , فكم كشفَ لنا
من مستورٍ , وفضح من دَعِيٍّ , وأبدى لنا زيف متصنِّع , ودجلَ مفترٍ , وخيانةَ
مُتدثرٍ بالوفاء , وكم أذلَّ التاريخُ من عزيزٍ ! , و كم قصمَ من جبار ! ...
ـ قد يكذب التاريخُ في حينٍ من الأحيان, ولكنَّ أحفاده لا بد أن تَظهرَ الحقائقُ
على أيديهم ولو بعدَ حينٍ ....
ـ كم من حقيقة كُنا نؤمن بها !, وكم من عقيدةٍ أمضينا رَدْحاً من الزمن نختزنها
بعقولنا و تمتزج بنبضِ قلوبنا ! , ولكن التاريخَ أزاح عن عقولنا الستارَ, وبَيَّن
لنا بالأدلة والمنطق أننا كنا نؤمن بوهْمٍ , ونتبنَّى خرافة , وأمضينا جزءاً من
عمرنا نتبعُ السّراب , ونبحثُ عن العنقاءِ....
ـ إذا بُنيتْ فوقَ صدرك صروحٌ من الهموم والأشجان , وحَملتَ جِبالاً من المآسي,
وشربتَ كؤوساً من المرارة , ..ثم أردتَ أن تجعل من ذلك كلِّهِ هباءً منثوراً ,
ونسياً منسياً فعليكَ بالتاريخ , فانظر كم من إنسان كانت حالتُهُ تُحاكي حالتَكَ ,
وما مآسيكَ وأشجانُك إلا فيضٌ من غَيْضِ مآسيه , ومع مرور الأيام انفرجَ ما به من
كربٍ , وأزال اللهُ ما به من شدةٍ...
...فالتّاريخُ ـ يا صاحبي ـ يكرِّرُ بعضَه , ولكنْ مع أشخاص جُدُدٍ , وفي أمكنة
شتّى , فكم قرأنا فيه أن شخصاً كان يلوكُ الهمَّ , ويتجرّعُ السُّهدَ , ويغصُّ
بالأرَق , ولم يُغمِضْ جفنَهُ اللياليَ الطوال... ثم تبينَ له فيما بعدُ أنه كان
أسيرَ وساوسَ مقلقةٍ , وأن همومه وأرقه ما هي إلا طُيُوفٌ مجنّحة , وخيالاتٌ مُضنية
, وشكوكٌ لا أساس لها من اليقين . وهذه الحالةُ تنطبقُ على كثيرٍ من أهل زماننا .