عندما بدأ اسم حلب يذكر في الوسائل
والقنوات الإعلامية تداعى إلى مخيلة سكان العالم والعرب عامة , و السوريين خاصة ,
خواطر متباينة تارة و متناقضة في تارة أخرى ! .
حيث شعر الأوروبي أن تراثه الروماني وحاضرته الرومانية
في الشرق باتت في خطر ! أما العربي فرأى أن صفحات حكم ملكشاه ونور الدين والسلاجقة
والحمدانيين مع سيف دولتهم معرضة للتمزيق في عاصمتهم حلب , أما السوري فتماثل في
عينيه العاشق الولهان لمدينته "المتنبي" .
منذ بدأت المعارك الشرسة في مدينة حلب السورية،
تهافت بعض الشعراء إلى تدوين تأملاتهم ووجدانياتهم حول الحرب والمدينة الشهيرة،
خصوصاً أنها في الذاكرة حاضرة بقوة في شعر أبو الطيب المتنبي وبيته المفترض أنه
ما زال فيها، وهو قال فيها شعراً لم يقله عمرو في الخمر.
لا ضرر في القول إن الضحية في الحرب على حلب ستكون حلب نفسها، بناسها ومبانيها
وآثارها وثقافتها، والمنتصر في هذه المعارك سيكون الرماد، ثمرة قنابل طائرات
الميغ والمدافع الثقيلة والدبابات، فحلب كأنها في مواجهة نيرون الذي أحرق
المدينة لأجل لا شيء.
قال الشاعر السوري شوقي بغدادي (غير البعيد عن النظام السوري) تعبيراً عما آلت
اليه المدينة: «لن تموت حلب بالتأكيد، غير أن حلباً أخرى قد تحل محلها حين
يختفي هواة النغم الذين كان يهابهم محمد عبد الوهاب حين زار حلب، وحين ينقرض
أحفاد المتنبي وسيف الدولة وعمر أبو ريشة ولؤي كيالي وسامي الكيالي وابراهيم
هنانو… لندع الصراع القائم الآن سواء كنا معه أم كنا ضده، ولنتكلم بلغة البشر
الأسوياء، ماذا يجدي تدمير مدينة مثل حلب ولنفترض جدلاً أن السلطة الحاكمة
استطاعت أن تنتصر على خصومها وتستعيد السيادة على مدينة مدمرة ماذا يعني ذلك؟!
هل في الإمكان إنقاذ حلب من دون تدميرها؟».
وكتب الشاعر أدونيس بلغة «ميتافيزقية» في جريدة «الحياة» الدولية مقالة بعنوان
«تنويعات على آلام المتنبي في حلب، يقول: «أحجار ترقص، أحجار تغني، فيما يواصل
الفضاء نحيبَه.(…) كيف نترجم المدن التي لا يجيء إليها الأنقياء إلا في ثياب
الشياطين، ولا يجيء الشياطين إلا في عباءات الأنقياء؟ سؤال مطروح على المتنبي.
أين عين السماء لكي تقرأ جوابَه؟ للأرض حسرةٌ غامضة تسيل في حبره. ذلك أن
البطولة هنا ليست لشجر الأرض، بل لفاكهة السماء.
أكاد أن أسمع المتنبي يهمس في غضب دفين:
إن كان العمل أو الفكر بناءً حقاً، فإن عليه أن يبني الإنسان، قبل أن يبني
المدينة».
يحتاج المرء إلى عراف ليفهم تنويعات أدونيس وكلامه عن آلام المتنبي. سيقال كلام
كثير عن حلب الآن كما قيل من قبلها عن حمص ودرعا وإدلب، وكل كلام سيكون على
محور «حلب هي المتنبي والمتنبي هو حلب». ثمة من يصف الحرب في هذه المدينة كأنها
حرب على هذا الشاعر، ربما لأن ما يعنيه منها هو الحياة التي أمضاها المتنبي
فيها، وكتب صحافي في جريدة بعثية قائلاً إنهم يطردون المتنبي من بيته، ربما
يقصد حزب البعث، ففي نظره أن هذا الحزب هو متنبي المدينة. على أن الحديث عن
المتنبي والمعري ونزار قباني في سورية الآن محاولة رخيصة لإدخال ما يسمى
«الرموز الثقافية» في إطار صراع الهويات والمذهبيات.
تحاول فئة بائسة القول إن ما يجري هو حرب على الثقافة وعلى المثقفين، مع العلم
أن النظام البعثي قضم كل ثقافة حية وفتك بأصحابها.
قصة المتنبي مع حلب لم تبدأ الآن، فمنذ أعلن عن اكتشاف منزله في هذه المدينة،
والمقالات لم تهدأ عن علاقته بها وبأميرها سيف الدولة الحمداني، وصار هناك من
يتحدث عن حلب ذات الخصوصية الحلبية في مواجهة «حلب البعثية»، والذي تحدث بهذه
اللغة تعرض بيته للمداهمة وصودرت كتبه.
الحديث عن هوية حلب مثل الحديث عن طائفة المتنبي التي شغلت الباحثين على مدى
عقود، وكل باحث خرج بنتيجة معاكسة للآخرى، وآخر الاستنتاجات أن المتنبي كان
كيسانياً بحسب المؤرخ كمال الصليبي، والكيسانية فرقة قريبة من القرامطة كان
يقودها مختار الثقفي. ليس هذا موضوعنا، بقدر ما نود أن نبين بعض جوانب علاقة
المتنبي بحلب، فعلى بعد عشرات الأمتار فقط من قلعة حلب، عُثر على منزل المتنبي،
من الحجارة الشهباء التي منحت اسمها للمدينة التي يمتد تاريخها إلى 12 ألف سنة.
يتألف المنزل من دورين، وعدد من الغرف المتوسطة الحجم، أبوابها من الخشب،
ونوافذها تعلوها قناطر مزينة…
وكان المؤرخ محمد قجة المختص بتاريخ حلب قد اهتدى إلى موقع صاحب «الخيل والليل»
بعد العثور على كتابين كانا مفقودين في الهند لمؤرخ حلب في العصر الأيوبي كمال
الدين بن العديم هما: «بغية الطلب في تاريخ حلب» و{زبدة الحلب من تاريخ حلب».
ويشير فيهما ابن العديم إلى «أن المتنبي عندما أقام في حلب عام 337 للهجرة منحه
سيف الدولة بيتاً بجوار بيوتنا في منطقة أدوار بني كسرى»، وهذه المنطقة معروفة
الآن بمنطقة خان الوزير.
وتوصل محمد قجة عبر الدراسات التاريخية إلى تحديد مكان بيوت آل العديم وآل كسرى
في مدينة حلب القديمة المجاورة لقلعتها المعروفة، لكن هذا التحديد كان مدار جدل
بين المثقفين والسكان المحلين للمدينة.
اندفع الشاعر المتنبي مع سيف الدولة يشاركه في انتصاراته التي أرّخها بملاحمه
الشعرية. كان أبو الطيب يزداد اندفاعاً وكبرياء واحتقاراً لكل ما لا يوافق هذا
الاندفاع وهذه الكبرياء. تسع سنوات في حلب، انقطع فيها المتنبي إلى سيف الدولة
ولم يقل في غيره بيتاً واحداً، راثياً
ذويه معجباً بشخصه. كان الشاعر والأمير قد التقيا لقاء عابراً في بلدة رأس العين على الطريق بين حلب والموصل، وكان ذلك عام 321هـ وكل منهما في الثامنة عشرة من عمره، ويومها قال المتنبي يمدح سيف الدولة :
ذِكرَ الصبا ومراتـعُ الآرام جلبتْ حِمامي قبل
وقت حِمامي
أنت الغريبة في زمان أهله
ولدت مكارمهم بغيــر تمـام
ويمضي الرجلان كلٌّ في سبيله… ودخل سيف الدولة حلب أميراً عام 333هـ، والتقاه
المتنبي في أنطاكية التي كانت جزءاً من دولته الحمدانية، في شهر جمادى الثانية
337 ومدحه بقوله:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمـه
بأن تسعـدا، والدمع أشفاه ساجمه
وما أنا إلا عاشق، كل عاشـق
أعـق خليليه الصفييـن لائمــه
لقد سلّ سيف الدولة المجد مُعلّماً
فلا المجد مخفيه ولا الضرب ثالمه
رثاء خولة
عرفت دار المتنبي في حلب أجمل أيام حياته، وفيها نظم غرر قصائده في سيف الدولة،
وشعره في حلب وسيف الدولة يبلغ ثلث إنتاجه الشعري،على أن حلب وسيف الدولة بقيا
في خاطر المتنبي وفي قصائده خلال السنوات الثماني التي أمضاها بعد خروجه من
حلب، ومصرعه عام 354هـ. ففي رثائه خولة (شقيقة سيف الدولة) قال سنة 352هـ
أرى العراق طويل الليل مذ نعيت
فكيف ليل فتى الفتيان في حلب
ثم شكر سيف الدولة على هداياه التي أرسلها إليه في العراق:
كلّما رحّبت بنا الروض قلنـــا
حلب قصدنا وأنت السبيـــلُ
والمسمّون بالأميــر كثيـــرٌ
والأميرُ الذي بهـا المأمــولُ
وكتب إلى سيف الدولة بعدما أرسل إليه يستدعيه إلى حلب 353 هـ:
فهمت الكتاب أبرّ الكتــــب
فسمعاً لأمر أميــر العــرب
وما قست كـل ملـوك البـلاد
فدع ذكر بعض بمن في حلـب
وأنت مع اللــه فـي جانـب
قليــل الرقـاد كثيـر التعـب
مدن أخرى
أن تحظى حلب بهذا القدر من شعر المتنبي فهو بذلك يعطيها هالة خاصة وشهادة
للتاريخ، ويمكن وصف علاقته بها كعلاقة الروائي جيمس جويس بدبلن أو علاقة كافكا
ببراغ أو علاقة نجيب محفوظ بالقاهرة أو علاقة بول أوستر بنيويورك أو علاقة
كفافيس بالاسكندرية…
على أن الحرب دائماً تبعث من رماد المدن طيف الثقافة، فتكون المدن تحت آلام
القصف حين نسارع إلى الحديث عن الشعراء والمثقفين فيها، اليوم وفي خضم قصف
طائرات الميغ أحياء حلب نتحدث عن آلام المتنبي فيها، ربما من باب التنديد
المجازي بالحروب، فحين نذكر حمص لا بد من أن نتذكر الشاعر ديك الجن الحمصي أو
غيره من الشعراء، وحين نقول دمشق نستعيد نزار قباني والياسمين أو زكريا تامر
وقصص الثاقبة، وحين نقول السلمية نستذكر الشاعر محمد الماغوط وكأن المدن أو
البلدات إذا أنبتت شعراء أو روائيين يصبح لها شأن آخر.
نكتب عن علاقة المبتني بحلب، لكن ما الجدوى؟ وهل للشعر معنى أمام الدمار والقتل
والصورايخ؟!
ترى لو عاد المتنبي إلى حلب ماذا سيقول الآن؟!
خواطر حلبية وإن شئتم أسموها خواطر سورية ..