بالعودة إلى معاجم اللغة نرى أن الخلاف يعني المضادة والمخالفة، وخلاف الشيء: هو عكسه وغيره، أما الاختلاف فيعني التنوُّع، فنحن نقول: اختلف الشيئان؛ يعني: تنوَّعَا.
وإن المتأمِّل في خلق الله يرى أن حياة الناس لا بد فيها من الاختلاف؛ لأن الله لم يخلق الناس متماثلين في كل شيء، فلكلٍّ طبعُه، وميوله، وبيئته، وتربيته، ومجتمعه.
بل إن الاختلاف آية من آيات الله في الكون؛ فهو الذي قال: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ [الروم: 22].
فالاختلاف طبيعة بين البشر وسيبقى، طالما أن هناك حياة، ولا يزال البشر مختلفين فيما بينهم، ولو شاء الله لوحَّد آراءهم، ولجمعهم على كلمة سواء، ولكنه - جل وعلا - قال: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود: 118- 119].
والاختلاف والتنوع يكونان في كل شيء، ولكنه عندما يكون في الدين؛ فعلينا أن نعلم أن الحق عند الله واحد، وما عدا ذلك فهو من باب الاجتهاد، فمَن أصاب فله أجران، ومَن أخطأ فله أجر واحد، وبما أن الحق عند الله واحد، فإن الله سوف يخبر به عباده، ولكن ليس في الدنيا، بل عند مرجعهم إليه، وذلك كما قال في الذكر الحكيم: ﴿ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة: 48].
فالاختلاف لا يكون في مورد النص، إنما يكون الاختلاف في شرح النص وفهمه، لذلك كان كل إمام صاحب مذهب متَّبع يقول: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي.
ومهما تعدَّدت التسميات الدينية، فالذي يجمعها ويوحد شملها هو الإسلام، تلك الكلمة العظمى، والتسمية الشاملة التي تجمع ولا تفرِّق، والتي سمانا بها ربنا في القرآن، وعلى لسان سيدنا إبراهيم؛ كما قال - تعالى -: ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [الحج: 78].
وبما أن الله سمانا مسلمين فعلينا أن نرضى بتسمية الله لنا، وألاَّ نتخذ بديلاً عنها.
وعلى الداعية إلى الله أن يدعو إليه على بصيرة من العلم والهدى، وعلى سراج وهاج من كتاب منير وسنة شريفة؛ كما قال - تعالى -: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
كما ينبغي على المؤمن - حتى لا يَزِيغ عن الحق - أن يتبع الصراط المستقيم، وأن ينتهج في حياته النهج القويم، وعليه ألاَّ يتبع السبل الكثيرة؛ لأن كثرة السبل تؤدي إلى الضياع والشتات، وها هو رب العزة يدعونا إلى اتباع صراطه المستقيم، فيقول لنا في كتابه الحكيم: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
وعلى المؤمنين أيضًا - مهما اختلفتْ مذاهبهم، ومهما تعدَّدت مشاربهم، ومهما تنوَّعتْ آراؤهم وتباينتْ أفكارهم - أن يتراحَموا فيما بينهم، وأن تغشاهم سحب المحبة، وأن يرتشفوا معًا فرات المودة والتعاطف، وأن يستظلوا جميعًا بظلال الإخاء والوداد، فهم - كما شبَّههم رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - جسدٌ واحدٌ، وذلك عندما قال: ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَل الجسد، إذا اشتكى منه عضو: تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))؛ البخاري ومسلم.
ومن المفارقات العجيبة اللطيفة أن اختلاف الآراء والأفكار لا يكون فقط بين شخص وآخر، بل يكون بين الشخص وبين نفسه، أو بمعنًى آخر: أن يختلف فكره من زمن إلى زمن، فيغير بعض آرائه السالفة التي كان يظنها لا تتغير، وهذا يحصل مع كثير من الناس، بل ومع الأنبياء أيضاً، ومع سيد الأنبياء، فهذا سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفَّرت عن يميني وأتيت الذي هو خير))؛ مسلم.
وقد يختلف الحكم في قضية واحدة بين نبيين كريمين، وذلك كما حصل مع سيدنا داود وسيدنا سليمان - عليهما السلام - فقد اجتهدا في الحكم على قضية واحدة، وكان كل منهما مختلفًا مع الآخر في رأيه - والقصة مشهورة في كتب التفاسير - ثم أخبرنا الله - عز وجل - أن الصواب كان مع نبي الله سليمان، مع أن كلا النبيين قد آتاه الله علمًا وحكمًا؛ قال - تعالى -:
﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: 78- 79].
وإذا اختلف نبيَّان كريمان حول مسألة واحدة، فمن باب أولى أن يختلف الصحابة فيما بينهم، وقد سردتْ لنا كتب الأحاديث والسير والتاريخ كثيرًا من مشاهد الاختلاف التي كانت بين الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - و لكن ذلك الاختلاف ما زاد قلوبهم إلا مودَّة، وما زادهم إلا إخاءً وصفاء، ومن الأمثلة التي أسوقها لك - أيها القارئ الكريم - مسألة اختلافهم بعد غزوة بدر، والتي ذكرها الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود قال: "لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟))، فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك استَبِقْهم، وَاسْتَأْنِ بهم؛ لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله، أخرجوك وكذَّبوك، قرِّبْهم فاضربْ أعناقهم... فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يردَّ عليهم شيئًا.
فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر... فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إن الله لَيُلِينُ قلوبَ رجالٍ فيه حتى تكون ألينَ من اللبن، وإن الله ليشدُّ قلوب رجال فيه حتى تكون أشدَّ من الحجارة، وإن مثلَك يا أبا بكر كمثل إبراهيمَ - عليه السلام - قال: ﴿ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 36]، ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال: ﴿ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾ [نوح: 26] وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88])).
فالمتأمل في الحوار السابق يرى أن سيدنا أبا بكر الصديق وسيدنا عمر الفاروق قد اختلفا في الحكم، وكذلك اختلف كثير من الصحابة، وفي كثير من المسائل، ولكن ما اختلفت قلوبهم، وما حملت الضغينة نفوسهم؛ فهم على الفور، وبعد كل اختلاف ونقاش وحوار تتصافى منهم القلوب، وتطيب منهم النفوس.
والمتأمل كذلك يرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما كان بين الصحابة كان الاختلاف بينهم أقل؛ وذلك - كما هو معلوم للجميع - لأنهم كانوا يَعرِضون اختلافهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصدر لهم الحكم الفصل في المسألة، وكانوا ممتثلين لأمر الله - تعالى -: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
أما بعد انتقاله - عليه الصلاة والسلام - إلى الرفيق الأعلى، فإن الاختلاف أصبح أشد وأكثر، وقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك سيكون؛ ففي الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنه مَن يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ)).
كلما ابتعدنا عن زمن النبوة، كان الاختلاف أكثر، ولكنه ينبغي ألاَّ يُفسِد للود قضية، وأن يكون محفزًا لنا للاستنباط وفَهم النصوص.
ومن أهم العوامل التي تبعث على الألفة والمحبة بين المختلفين في رأي ما: أن يستخدم الإنسان اللين والتلطف في الحوار، وإبداء الرأي مع مَن يخالفه فيه، حتى وإن كان الخصم في غاية الكفر والعناد، فنبيَّا الله موسى وهارون - عليهما السلام - عندما أرسلهما رب العزة إلى فرعون الذي تجاوز الحد في الطغيان، والذي قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، أمرهما أن يُلينا له الكلام، فقال: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 43- 44]، فما يُدرَك باللين لا يُدرَك بالشدة.
ومن العوامل الباعثة على التحابِّ والتوادِّ ألاَّ يكفِّر أحد المتحاورين الآخر؛ فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في جملة من الأحاديث؛ منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر؛ فقد باءَ بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا رجعتْ عليه))؛ متفق عليه.
ومنها ما روي عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه))؛ متفق عليه، ومعنى ((حار)): رجع.
ولي قصيدة بعنوان (صرخة في ضمير أمتي)، أقول فيها بهذا الصدد:
فإنــا إخـــوةٌ في اللــه قبــل أُخُــوَّةِ النَّسب
وإنا شعــلــــةُ الإخلاص من مــاضٍ ومـن حِقَبِ
وما عــادت مـــذاهبُنا تُفـرِّق حـِـزمــةَ الحطبِ
وحتى لا أطيل عليك - أيها القارئ الكريم - أقول:
الإسلام يجمِّع ولا يفرِّق، ويحبِّب ولا يبغض، ويدعو إلى الاعتصام بحبل الله المتين، والسير على السبيل الواضح القويم.
فإذا لم يُعجِبْك رأي إنسان ما، فقد تعجبك أخلاقه، واعلم أن كل الأئمة وأصحاب المذاهب قد أخذوا من مَعِين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصافي، فكلهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُلتَمِس، وتذكَّر معي دائمًا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا))؛ رواه مسلم.
كما ينبغي على المسلمين ألاَّ يؤدِّي الاختلاف بينهم إلى الخصومة والبغضاء والشحناء، وعليهم أن يتحلوا بآداب الاختلاف، التي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
• ألا يكون هناك لوم وتثريب بين المختلفين.
• وأن ينصف الإنسان في الحكم على من خالفه.
• وأن يحكم على الناس بظواهرهم، وليس بالظن ولا بتنقيب القلوب؛ فإن كثيرًا من الظن إثم، وإن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إني لم أؤمر أن أنقِّب قلوب الناس، ولا أشق بطونهم))؛ البخاري.
وعلى المرء أن لا ينظر بالمنظار الذي يقول: قَوْلي صواب لا يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ ولا يحتمل الصواب.
وكرِّر معي هذا الدعاء: اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.