كيف يكون صديقاً لك من يراك
تغرق وهو لا يزال يُحدِّق فيك... فإذا ما وصلتَ إلى الشاطئ قام بزجّك في الماء ؟!
وكيف يكون صديقَك مَن يراك تحترق ... فإذا ما كادت النار أن تخمد نفخ فيها من جديد
؟!
وكيف يكون صديقك من تعيش معه ردحاً من الزمن ثم يتخلى عنك عندما يعضُّك الدهرُ
بنابه , ويقلبُ لك ظهرَ الْمِجَنِّ ؟
ـ إذا تعرضت يوماً لخيانةٍ من صديق فلا تحزن , لأن
الحياة مدرسةٌ , وكلما كان الدرسُ أشدَّ وقعاً وقسوةً فإنك تتعلمُ منه الكثيرَ
والكثير , ويرسخُ في ذاكرتك على مدى الدهور وتعاقب الأيام ....
ـ كنتَ في منصبك ذات يوم , وكنت ترى الأصدقاء يأتون إليك زَرافات ووُحدانا , بل كنت
تراهم دائماً عن اليمين وعن الشمال عِزِيْنَ ...
...أما الآن فليس لك ـ يا صاحبي ـ إلا الذكرياتُ المريرةُ , والحسراتُ المحرقة ,
والزفراتُ الملتهبةُ..
وعلمتَ أن معظم أصدقائك كانوا سحابةَ صيفٍ انقشعت , وحُلماً مضى وانقضى, وظلَّا
اضمحلّ وزال..
وتيقنت أنك كنت تعيش في وهم وخيال , وأن معظم أصدقائك ما هم إلا سرابٌ بقيعةٍ كنتَ
تحسبه ماءً زلالاً , وريشة تتطايرُ في مهب الرياح...
ـ مخدوعٌ من يظن أن كلَّ من يسلم عليه بحرارة صديقٌ وفِيٌّ , وكلَّ من يتشوق للقائه
بلهفة أخٌ حميم , وكل من يبتسم ثغرُه وتنبسط أساريرُ وجهه صاحبٌ أمين....
فكم من إنسان يسلم عليكَ بحرارة, ولكنها حرارةُ صدره الذي يتلظّى حقداً وحسداً !
وكم من متشوِّق للقائك بلهفة ! ولكنه متلهّف ليرى فيك ما يسرُّه ويسوؤُك !
وكم من إنسان يبتسم لك ثغرُه , وتنبسط أمامك أساريرُ وجهه , ولكنّ له قلباً يُقطّب
لك حاجبيه , ووجهاً خفيّاً متجهماً لا تراه إلا إذا كنتَ ذا بصيرة وفراسة ...
وعندها يلوحُ في ذهنك قول المتنبي :
إذا رأيت نيوبَ الليث بارزةً
فـلا تظننَّ أن الليثَ يبتسم !
ـ قد تعيش مع صديق لسنواتٍ وسنوات , وأنت لا ترى فيه إلا أخاً شفوقاً , وقلباً
حنوناً , وناصحاً أميناً , وفجأةً , ولأمرٍ غير ذي بالٍ تكتشفُ أنه ذئبٌ مراوغٌ ,
وتتيقن أنه أخٌ ولكنْ من إخوة يوسفَ عندما ألقوه في غيابات الجب [ ولكنهم تابوا
فيما بعد ] , وناصح أمينٌ , ولكن لأعدائك , وقلب حنونٌ , ولكن على حُسادك
ومبغضيك....
فإذا ما حصل معك ذلك فلا تستغربْ , ووطِّد نفسك على ما هو أصعبُ من ذلك , فالحياة
تخبئ لك كثيراً من المفاجآت !
ـ مالَكَ ـ تربت يداك ـ ؟! طُعنتَ مراتٍ ومرات من الشخص ذاته , وبذات الْمُدية ,
وبعد كل طعنة يقول لك : عفوا ,ولم أقصد , ووقع ذلك سهوا , ويرميك بوابل من الأعذار,
وربما دعَّم أعذارَهُ أحياناً بدمعتين بائستين تجريان على وجنتيه !
وأنتَ إلى الآن لم تعتبر , بل أخذت ـ وبطيب قلبٍ منك ـ تكفكفُ له دموعه , وتهدّئ من
رَوعه .....فحريٌّ بك أن تفيق من ضلالك , وتعودَ إلى رشدك ...
وينبغي عليك أن تميز بعد ذلك بين اليد التي تطعنك من الخلف وبين اليد التي تحنو
عليك يقيناً وتربت على كتفيك حقيقة وحبا .!!
ـ هي أبيات تعجبني كثيراً , وكلما قرأتُ قصةً عن غدر صديق , أو سمعت عن خيانةٍ ممن
يدعي لصاحبه الإخاء والوداد , فإنني أتذكرها , وتأبى إلا أن تتشبث بشفتي ولساني حتى
أقولها :
وإخـوانٍ حســـبتهمُ دروعاً
فكانــوها, ولكــنْ للأعادي
وخلتـهمُ ســـهاماً صائباتٍ
فكــانوها , ولكـنْ في فؤادي
وقالوا: قد صَفَتْ منا قلــوبٌ
لقد صدقوا, ولكن عـن ودادي
وقالوا: قد سعيـنا كـلَّ سـعي
لقد صدقوا, ولكن في فسـادي
وقد ختمت المقال بهذه الأبيات , ليعتبرَ بها المعتبر , وليتعظَ بها المتعظ ,
فالسعيد من تنفعه الكلمة !