لا شك ولا ريبَ أن المتأمل في الشعر
يرى أن الشعراء كانوا يسامرون البدر , ويرعونَ النجوم , ويناجون الأطيافَ , ويندبون
الأطلالَ....وهم ذوو أفئدةٍ رقيقةٍ يُشجيهم نوح الحمائم , ويُبهجهم صُداحُ العنادل
, ويُطربهم غِناء البلابل ...
وهم ذوو آذانٍ مُصغية حيث تنصتُ آذانُ قلوبِهم إلى هدير المياه , وهديل الحمام ,
وترانيم الطبيعة , وألحان الرياض , ونشيجِ المنتحب.. وكثيراً ما نراهم يشاركون
القمريَّ جواه , فيهيّجُ لهم أحزاناً دفينةً , ويبعثُ فيهم الشوقَ بعد طول رُقاد ,
كما قال أبو تمام :
غنى فشـاقـكَ طـائـر غِرِّيد
لـمّا تـرنَّم والـغـصـون تَـميدُ
وشعرُ أبي فراس الحمدانيِّ مشهورٌ عندما سمع حمامةً
تنوح بقربه على شجرة عالية , فسألها إن كانت تشعر بما يعانيه , وتذوق بعضاً مما
يقاسيه :
أقولُ وقــد ناحـت بقربي حمامةٌ
أيا جارتا: هـل بات حالُك حالي ؟
معـاذَ الـهوى ما ذقتِ طارقةَ النّوى
ولا خـطـرت مـنك الـهمومُ ببالِ
لقد كنتُ أولى منك بالدمع مُقلـةً
ولكـن دمـعي فـي الحوادث غالٍ
(1) وكذلك حال الشاعر أبي القاسم عندما سمع
في رونق الضحى بكاءَ حماماتٍ لهن هدير , فهيجنَه ببكائهن , وزِدْنَ لوعته, وفجرنَ
اشتياقه , وعُدنَ به إلى عهدٍ سلفَ , ودهرٍ مضى, فنراه مخاطباً عبدةَ:
ألَمْ تَسْمَعِي: أي عَبْدَ في روْنَـق الضُّحَى
بكـاءَ حَـمَامَـاتٍ لُهَنَّ هَدِيرُ؟
بَكَيْنَ فهيَّـجْـن اشـتِيَـاقِي وَلوْعـتي
وقَدْ مَـرَّ مِـنْ عَهْد اللّقَاءِ دُهُور
(2) ويبقى السؤال : هل الحمام عندما يسجع ويُهدهِد ينوح أم يترنّم ؟! أم أنه ينوح حيناً ويترنّم أحياناً أخرى ؟ أم أنه لا يترنَّم على الإطلاق لأنه سَمِيُّ الحزن , ولكن الأمرَ في الحقيقة يعود إلى نفسية الشاعر , ومشاعره العاطفيةِ , فإذا كان سعيداً رآه يترنم , وإذا كان محزوناً رآه ينوح ؟!
والأسئلة في هذا الصدد كثيرةٌ...ولكن المتأمل في أشعار العرب يرى أن (العربَ تجعل
صوتَ الحمام مرةً سجعاً , ومرة غناء , وأخرى نوحاً , وتضرب به المثلَ في الإطراب
والشجْوِ , وبجميعه جاء الشعر , قال البحتري :
إذا سجـعَ الـحمامُ هنـاك قالوا
لفـرط الشـوق : أيـن ثوى الوليدُ ؟
وقال ابن الرومي :
رأيتُ الشـعر حيـن يُقال فيكم
يعـود أرقَّ مـن سجْـعِ الـحـمام
(3)ومن العرب كذلك (من يجعل صوت الحمام بُكاء ً،
ويزعم أنها تبكي على فَرْخٍ لها هلكت في عهد نوح - عليه السلام - ، ويسمونه
الهديلَ، ولذلك قال الكُميت:
وَمَـا مَـنْ تـهْتُـفينَ به لِنَصْرٍ
بـأقْـرَبَ جـابَـةً لَـك مِنْ هَدِيلِ
ومنهم من يجعله غناءَ، ـ كما ذكرنا ـ وكما قال الآخر:
ألاَ قاتلَ اللّه الـحمـامَاتِ غدْوَةً
عَلَى الغُـصْنِ مـاذا هَيَّجَتْ حَينَ غَنَّتِ ؟
وأظهر أبو العلاء الشكّ في ذلك حين قال:
أبَكتْ تِلْكمُ الـحَـمْـامـةُ أَمْ غَنَّــتْ عَلَى فَـرْع غُصْـنِها
الَمْيّـاَدِ؟!
(4)وبعض الشعراء جعل من نوح الحمام مطيةً للموت
والهلاك والْحِمام , كما فعل القاضي عبدُ المنعم الواسطيُّ حيث جعل من نوح الحمام
حِماماً وموتاً , فلله درُّه عندما قال :
ولمّا جزَعنـا الرَّمـلَ، رمـلَ عُنَيْزَةٍ
وناحت بأعلى الدَّوْحتين حَمـامُ
صبوتَ اشتياقاً، ثمَّ قـلت لصاحبي:
ألا إِنّـما نَـوحُ الحَمام حِمـامُ
(5)وإذا كانت الحمامة تغني أو كانت تنوح , فإنها
عند الشاعر أحمد بن محمد بن عبد ربه تُبدي ما أخفاهُ القلبُ من لواعج الشوق ,
وحُرَقِ الصبابة , لذلك يقول :
أناحتْ حمـاماتُ اللِّوى أم تغنّتِ ؟
فـأبـدت دواعي قلـبِه ما أجنّتِ
فديتُ التي كـانت ولا شيءَ غيرُها
منـى النفسِ أو يقضي لها ما تمنّتِ
(6)في حين نرى أن الشاعر أبا بكر يحيى بن بقيٍّ
الطُلَيطُلِيَّ يؤكد أن القمريَّ دائمُ البكاء , حتى وإن قال بعض الناس إنه يترنم
ويغني , ويُشبه شاعرنا نفسَه وتنهُّدَه بالقمريِّ وبكائِه عندما يقول:
فهلاَّ أَقاموا كالبكـاءِ تنهُّدِي
إذا مـا بَكَى القُمْرِيُّ قالوا : تَرنَّما
(7)وبكل الأحوال , وسواءٌ أكانت الحمامة تغني أم
كانت تبكي , فإن صوتها صوتٌ أعجمي , ويفسره كلُّ شاعرٍ كما يريد , فهناك (أبياتٌ
تُروى لابن الدُّمَينَة نقتطف منها قوله :
ألا قـاتَـلَ الله الحَمـامَة غُدْوةً
على الغُصْنِ ماذا هَيَّجَتْ حينَ غَنَّتِ ؟
تَغَنَّتْ بصَوْتٍ أَعْجَمِيٍّ، وهَيَّجَتْ
جَوايَ الذي كانتْ ضُلُوعِي أَجَنَّتِ
(8)وجميعنا نتفق على أن هديل الحمام وسجعَه ـ بالنسبة للمُحب والمشوق والغريب ونائي الديار ـ يُرقّق المشاعر ,ويُنبّه الشوق بعد أن كان سادراً في غيابات الكرى , ويُسيل العبراتِ.....
وكذلك نتفق أن الحمامةَ في غالب الأحيان هي التي تبدأ بكاءَها , فيهيّج نوحُها
الشاعرَ كما مر معنا من شعر أبي فراس في بداية المقال عندما ناحت الحمامة بجانبه ,
فسألها إن كان حالُها مثلَ حاله , وكما حصل مع الشاعر نُصَيْب بن رَباح , حيث بكى
بعدما بكت الحمامةُ لأنها هي التي ذكَّرته بالأحبة وعهدهم , وشوَّقتْه إليهم ,
فاعترف لها بفضل السبْق والتقدُّم عندما قال :
ونَبَّهَ شَـوْقِـي، بَعْـدَ مـا كانَ نائِماً،
هَتُوفُ الضُّـحَى مَشْغُوفَةٌ بالتَّرَنُّمِ
فَلوْ قَبْـلَ مَبْـكـاهـا بَكَيْتُ صَبابَةً
بسُعْدَى شَفَيـْتُ النَّفْسَ قَبْلَ التَّنَدُّمِ
ولكنْ بَكَـتْ قَبْلِي، فهَيَّـجَ لِي البُكا
بُكـاها، فقـلتُ: الفَضْلُ للمُتَقَدِّم
(9)وكذلك نرى أن شجوَ الحمام فوق أفنانها , وفقدَها
لأُلّافِها,هو الذي جعل محمداً الحِصنيّ يقول : أَشاقَكَ بَرْقٌ أَمْ شَجَـتْكَ
حَمـامَةٌ
لَهـا فَوْقَ أَغْصانِ الأراكِ نئِيمُ ؟
(10)أضافَ إِليـهـا الهَمَّ فِقْـدانُ آلِفٍ
ولَيْـلٌ يَـسُـدُّ الخافِقَيْنِ بَهِيمُ
تَمِيدُ إذا ما الـغُصْـنُ مادَتْ مُتُونُهُ
كما مادَ مـن رَيِّ المُدامِ نَدِيمُ
(11)وقد لاقى نوحُ الحمام اهتماماً كبيراً في كتب الأدب العربي , وقد أفرد له بعض الكُتّاب باباً خاصاً كما فعل ابنُ داود الأصبهانيُّ في كتابه (الزهرة ) وعنونه بـ (في نوحِ الحَمامِ أُنسٌ للمنفردِ المُستهامِ)
ومما قال فيه :...ذكروا أنَّ مجنون بني عامر رقدَ
ليلةً تحت شجرةٍ فانتبه بتغريد طائرٍ فأنشأ:
لقدْ هتفـتْ في جنحِ لـيلٍ حمـامةٌ
علَى فـنـنٍ تدعُو وإنِّـي لنائمُ
فقلتُ اعتـذاراً عـندَ ذاكَ وإنَّنـي
لنفسِي فيـمـا قـدْ رأيتُ للائمُ
أأزعمُ أنِّي عـاشــقٌ ذو صبـابةٍ
بليلَى ولا أبكِي وتبكِـي الحمائمُ ؟
كذبتُ وبيـتِ اللهِ لوْ كنتُ عاشقا ً
لمَا سـبقَنـي بالبـكـاءِ الحمائمُ
(12)وفي حديثنا عن الشُّعراء والحمام وسجْعه وغِنائه لا بد أن نذكُر أنّ بعض الشعراء قد يلجأ أحياناً إلى نوع من الواقعية في المقارنة بين حالته وحالة الحمامة التي تنوح بقربه , فيسألها إذا كانت صادقةً في هذا النواح أم لا , ثم يقارن ـ بواقعية كذلك ـ بينه وبينها , فيرى أن الحمامة تُعلن وجدها وهو يُخفيه , وهو يواصل بكاءه ليلَ نهارَ أما هي فتهجعُ ليلاً , وهو صادقٌ في دعوى وجده وحبه أما الحمامة فكاذبة باعتقاده , وهذا رأيه على كل حال , قال الشاعر :
أحَقَّاً يا حَمامَـةَ بَطْـنِ وَجٍّ
بِهذا النَّوْحِ أَنَّـكِ تَصْدُقِينا ؟!
فإنِّي مِثْلُ ما تَجِـدِينَ وَجْدِي
ولكنِّـي أُسِـرُّ وتُعْـلِنِيـنا
غَلَبْتُك بالبُكـاءِ بـأَنَّ لَيْـلِي
أُواصِلُـهُ وأَنَّكِ تَهْجَعِيـنـا
وأَنَّى أَشْتَكِي فأَقُـولُ حَـقَّاً
وأَنَّـكِ تشْتَـكِينَ فَتَكْذِبِيـنا
(13)وإنني أرى ـ ولا أدري أيها القارئُ الكريم أتوافقني الرأي أم لا ؟ ـ أن الحزن والنواح هو الأساس عند الحمام , فالحمام بهديله وسجعه سميرُ الحزانى , ونَجِيُّ الثّكالى والأيامى , وهديلُهُ بلسمٌ لجراحاتِ المتألّمين , وسجعُهُ مؤنسٌ للغرباء المبعَدين... وعندما يختلف اللفظ أحياناً عند الشعراء بين الغناء والنواح فإن الشعراءَ ـ طبعاً ـ لا يقصدون الفرحَ والسرور إذا ذكروا كلمة الغناءِ مقرونةً مع الحمام ,بل يقصدون بها الحزن والبكاء, والعويل وطول النحيب , ولذلك أمثلةٌ كثيرة في أشعارهم , منها ما قاله جَهمُ بن خلف:
وقد هاج شوقي أنْ تَغنَّت حمامةٌ
مطوَّقةٌ ورقاءُ تصدَحُ في الفجرِ
هتوفٌ تُبكِّي ساقَ حُرٍّ ولن ترَى
لها دَمعةً يومًا على خدّها تجري
(14) وبعض الشعراء يحاول أن يُعلّل وجود اللبس بين البكاء والغناء تعليلاً منطقياً نوعاً ما , فهو يرى أن الحمام حتى وإن بكى فإنه لا دموعَ له تُسكب , ولا أجفانَ تبتل , بينما الإنسانُ تسحُّ منه الدموعُ عند البكاء , فيحاول أن يجعلَ الفرق واضحاً بين بكاء الإنسان وبكاء الحمام...وبدا هذا الأمر جليّاً في قول الشاعر عبد الله بن الدُّمَيْنَة وهو يخاطب حماماتِ اللوى :
ألا يا حماماتِ اللِّوَى عُدنَ عودةً
فإنِّي إلـى أصـواتكنَّ حزينُ
فعُدنَ فلمَّا عدنَ كـدنَ يُمـتنَنِي
وكـدتُ بأسـرارِي لهنَّ أُبينُ
ولمْ ترَ عينـي قـبلهـنَّ حمائماً
بَكـينَ ولمْ تـدمعْ لهنَّ عيونُ
(15)يرى الشاعر عنترة في نهاية المطاف أن الحمامة عندما تُغرد فإنها تشكو صروف الزمان , وفي الوقت ذاته يرى أن حزنَه يفوق حزنها بأضعافٍ مضاعفة ... لذلك يطلب منها أن تكون حزينةً مثله , ودموعُها هتّانَةٌ شديدة الْهَمَلان , فها هو يقول :
وقد هتفتْ في جنح ليل حمـامة ٌ
مغـردة ٌ تشكو صروفَ زمـانِ
فقلتُ لها: لو كُنْتِ مثْلي حزينةً
بكـيـتِ بـدمعٍ زائدِ الهمَلان
(16)وختاماً : فإننا نرى أن الحالة النفسية للشاعر
هي التي تتحكم في هذه المسألة , فصوت الحمام واحد وهو الهديل أو السجعُ أو
الهدهدةُ... وكلٌّ يرى فيه ما يريد.. فالحزين يرى فيه نُواحاً , والغريب يرى فيه
أُنساً , والمبتهج يرى فيه تغريداً والخلي يرى فيه طمأنينة وسكينة.....
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) - ديوان الأمير أبي فراس الحمداني تحقيق وشرح : د محمد ألتونجي , منشورات
المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق عام : 1408 هـ - 1987 م ص
: 246- 147 وانظر : قرى الضيف ,عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس الطبعة
الأولى ، 1997تحقيق : عبدالله بن حمد المنصور جـ : 1ص : 92
(2) ـ المغرب في حلى المغرب , ابن سعيد المغربي جـ 1 ص : 109
(3) ـ ثمار القلوب في المضاف والمنسوب ,أبي منصور عبدالملك بن محمد بن إسماعيل
الثعالبي ,دار المعارف – القاهرة ط:1 ، 1965 تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ص :
471
(4) ـ الحلل في شرح أبيات الجمل البطليوسي جـ :1 ص : 35 () ()
(5) ـ خريدة القصر وجريدة العصر , العماد الأصبهاني جـ : 1 ص: 186
(6) ـ يتيمة الدهر , للثعالبي جـ :1 ص :180
(7) ـ المغرب في حلى المغرب , ابن سعيد المغربي جـ 1 ص : 109(8) ـ الحماسة البصرية
, أبو الحسن البصري جـ :1 ص : 163
(9) ـ الحماسة البصرية , أبو الحسن البصري جـ :1 ص : 163
(10) ـ النئيم : الصوت الضعيف انظر لسان العرب , نأم
(11) ـ الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين ,الخالديان جـ :1 ص :149
(12) ـ الزهرة , ابن داود الأصبهاني جـ : 1ص:92
(13) ـ الحماسة البصرية , أبو الحسن البصري جـ :1 ص : 163
(14) ـ الحيوان الجاحظ جـ :1 ص :242
(15) ـ الزهرة , ابن داود الأصبهاني جـ : 1ص:93 وانظر : الحماسة البصرية , أبو
الحسن البصري جـ :1 ص : 164
(16) ـ ديوان عنترة , باب : لمَنْ طَللٌ بالرْقَمتين شجاني