إن السياسة الغربية منذ قديم الأزل تقوم على الهيمنة والسيطرة من خلال التشتت والتقسيم ليشعر كل طرف بحاجته الى دعم الغرب له، لذا عملت الولايات المتحدة الامريكية ومن ورائها الدول الاستعمارية على إحداث فتن طائفية في مختلف البلدان العربية، سعياً منها لتنفيذ خطة الطوق النظيف الذي وضعته في نهاية التسعينيات لضمان أمن الكيان الصهيوني عن طريق القضاء على الجيوش العربية في دول الجوار الإسرائيلي" سوريا، العراق، مصر" بالتزامن مع تحقيق خارطة تقسيم منطقة الشرق الأوسط بعد إشغال المنطقة بالفوضى الخلاقة الممهدة لما يسمى بالشرق الأوسط الكبير.
واللعب على أوتار الطائفية والأثنية ليست وليدة اليوم، فقد شهدت أوروبا في العصور الوسطى صراعات طائفية ذهب ضحيتها آلاف الناس بين البروتستانت والكاثوليك تارة، وبين الأرثوذكس والكاثوليك تارة أخرى، وتمكنت الدول الأوروبية من حسم صراعاتها الطائفية بعد أن استطاعت أن تتحول الى دول مدنية تقوم على أساس المواطنة بصرف النظر عن الدين أو المذهب أو القومية، وتمكنت من تحقيق الأمن والأمان والعيش الكريم لبناء مجتمع مزدهر ومتطور، فضلاً عن جعل الحقوق والواجبات متساوية امام الجميع.
ما يهمنا هنا هو إلقاء الضوء على ظهور المد الطائفي في معظم مجتمعاتنا العربية وما ينطوي عليه من مخاطر على أمن السلم الأهلي والأمن الوطني والقومي، مما جعل هذه المجتمعات عرضة للتدخلات والضغوط الأجنبية و الإضرار بمصالحها الوطنية وتبديد ثرواتها الطبيعية وإيقاف عجلة نهضتها وتطورها دون اللحاق بركب الحضارة الإنسانية، فضلاً عن قتل وتهجير الكثير الناس الى دول مجاورة يستجدون لقمة العيش بعد أن كانوا أعزاء وكراماً في بلدانهم، ففي لبنان مثلاً اتخذ العنف الطائفي مسار التصادم بين أبناء الوطن الواحد فشهد صراع عنيف بين المسلمين والمسيحيين من ناحية و بين السنة و الشيعة من ناحية أخرى، وما نجم عن ذلك من حرب أهلية دامت حوالي عقدين من الزمن، ولا ننسى اليمن حيث أدت الفتنة الطائفية بين الحوثيين ومواطنيهم من أهل السنة والجماعة الى إشعال حرب طاحنة قادت البلاد الى اللاستقرار وانعدام الامن والأمان فيه.
أما العراق فقد وصلت الفتنة الطائفية والمذهبية الى أوجها منذ غزوه واحتلاله عام 2003م، وحتى يومنا هذا بين السنة والشيعة، حيث أخذت هذه الفتنة أشكالاً متعددة كانت نتيجتها إزهاق أرواح الناس دون ذنب و تشريد آلاف الناس من مناطقهم بهدف التطهير العرقي، واليوم تتكرر المأساة في مصر بعد أن تحولت الاحتجاجات المطالبة بالحقوق و الحريات الى حرب طائفية و جاءت حادثة مقتل عدد من الشيعة، بينهم حسن شحاتة الذي يوصف بالأب الروحي للشيعة المصريين على أيدي بعض احدى القرى المصرية لتعيد الى الاذهان نبوأة السيد هيكل بأن قضية الصراع العربي الإسرائيلي بدأت تنزوي ليبرز مكانها الصراع السني الشيعي.
وما يجري في سورية الآن من حرب عدوانية وتدمير بنيتها التحتية والاقتصادية والخدمية، بنية تفكيك و تقسيم وإضعاف سورية الدولة والوطن وإخراجها من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، فلم يعد سراً على الاطلاق أن هناك محاولات مستمرة طوال السنوات الماضية وحتى يومنا هذا من بعض القوى الدولية والإقليمية لزعزعة الاستقرار في المنطقة وخلق مناخ يسوده التوتر والاحتقان ويشجع على اثارة القلاقل والاضطراب واللعب على أوتار الخلافات العربية والاثنية وتصعيدها والعمل على تحويلها الى صراعات ملتهبة ومستمرة تهدد أمن سورية والمنطقة العربية بأكملها.
فالغرب عمل على تأجيج الصراع الطائفي والمذهبي لأنه المستفيد الأول و الأخير منه، والنوايا الغربية في تقسيم المنطقة على أساس مذهبي وطائفي ليس جديداً، حيث رسمت خرائط للمنطقة بعد تقسيمها، فالدلائل على طبيعة الدور الغربي في تأجيج هذا الصراع كثيرة ومتعددة أهمها، دفاع الغرب عن الأقليات دفاعاً مستميتاً ودعمها مادياً ومعنوياً وكانت الحكومات قبل ثورات الربيع العربي تساهم في ذلك بمنحهم مناصب مما يخلق أرض خصبة للدعوات المتطرفة، بالإضافة الى ما حدث في لبنان منذ ان خرج الاستعمار الفرنسي عام 1943م، واضعاً سياسة المحاصصة بين الطوائف في الدستور، و كذلك عمل الغرب على تفتيت القيم الإسلامية الوسطية التي تنطلق من قاعدة انه (لا إكراه في الدين)، وذلك بوسائل كثيرة بينها تعزيز مناهج التعليم الديني التي صيغت بتوجهات غربية.
والهدف النهائي هنا تكريس حالة الصراع الطائفي من أجل بسط النفوذ الغربي في المنطقة ووفاة الصراع العربي الإسرائيلي، والمخطط الغربي المرسوم لإيران أن تدخل في صراع مع السنة يضعف قوتها ويوفر الأمن لإسرائيل، كما انها تفقد بهذا الصراع مكتسباتها لدى المواطن العربي كقوة مناوئة لإسرائيل داعمة لحركات المقاومة وهذا ما بدا جلياً حالياً.
وبالتالي يسعى الغرب الى استغلال هذه الخلافات الطائفية والمذهبية وتأجيجها في المنطقة لأنها تحقق له هدف إثارة الفوضى وتقويض الاستقرار ويحقق أهدافه ومصالحه الاستراتيجية، ومصلحته أيضاً أن يبقى هذا الصراع قائماً ومستمراً، ولهذا فهو يسعى الى أن يكون هناك في المنطقة قطب شيعي محوره إيران، وقطب آخر سني يكون دائماً في مواجهة القطب الشيعي، وهذا ما يتيح للغرب التدخل باستمرار في المنطقة .
إن ما يجري الآن في العالم العربي من تجاذب طائفي حاد نصرة لهذا الفريق أو ذاك ينزلق بالمنطقة رويداً رويداً نحو تكريس الفتنة وإشعال حرب طاحنة لن يكون فيها منتصر سوى الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل، وإيقاف عملية التنمية والرجوع الى الوراء عشرات السنوات، وانهيار الأمن ومنظومات القيم والأخلاق وتفتيت النسيج الاجتماعي بين مختلف فئات الشعب العربي.
وفي إطار ذلك يمكن القول إن البلدان العربية التي استطاعت التخلص من الورم السرطاني الخبيث" الطائفية" هي البلدان التي حققت معدلات تنمية مرتفعة ومستويات معيشية كريمة لمواطنيها وتعزيز الأمن والاستقرار لبلدانهم.
لذلك لا بد من تظافر الجهود لاستئصال هذا الورم قبل ان ينخر مجتمعاتنا ويفتك بجسد امتنا العربية عن طريق إدراك المصلحة الحقيقة للامة العربية وعزل الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل من أن تكون اللاعب الرئيسي أو الفرعي في تقرير مصير الصراع ومآلاته، وإشاعة روح التسامح والتعايش السلمي بين مختلف الديانات و المذاهب المتعددة وعدم زج الدين أو المذهب في الخلافات السياسية فضلاً عن تعزيز كرامة الانسان العربي ونشر القيم الإيجابية بين الناس كالتعايش والمحبة والمشاركة والألفة والتعدد"، وهذا لا يتأتى إلا عبر حوار سياسي عاقل تشارك به أطراف الأمة ومرجعياتها المعتبرة، شرط الخروج من قلاع الطائفية والحضن الأمريكي ووقف التحريض وسفك الدماء في معركة استنزاف مصممة بإحكام.
وفي النهاية وفي
ضوء هذا التحليل، أن هناك ثلاثة أولويات كبرى مطرحة على الدول العربية اليوم ويجب
ان تتمسك بها وتسعى الى تحقيقها هي، تحقيق الامن والاستقرار الداخليين، وتعزيز
الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي بين مختلف مكونات وقوى المجتمع بالإضافة الى
تحقيق الاستقلال الوطني وتعزيزه.