في مقدمة القضايا التي تشغلني هذه الأيام هي مخطط إعادة تفتيت البلاد العربية وسورية على وجه الخصوص، فالذين يعتقدون إن ما صنعته الدول الاستعمارية بالمجتمعات العربية من أحداث مأساوية وفوضى واحتلال وتقسيم أمراً مفاجئاً جاء وليدة الأحداث التي أنتجته، فإن الحقيقة الكبرى هي أن ما يحدث الآن في سورية وغيرها من الدول العربية الشقيقة هو تحقيق وتنفيذ المخطط الاستعماري الذي خططته وصاغته وأعلنته الصهيوأمريكية، لتفتيت المنطقة الى دويلات عنصرية وطائفية، وأعد هذا المخطط بن غوريون وخبراء الأمن القومي من الأمريكان والبريطانيون عام 1953م، والذي تطور بعد ذلك تبعاً لأحداث ومتغيرات مرت بها المنطقة وتم نشره تباعاً خلال السنوات الماضية، والهدف منه القضاء على الحضارة العربية والإسلامية وتجزئة الوطن العربي والإستحواذ على ثرواته ومقدراته والتحكم فيه حاضراً ومستقبلاً.
يدرك الكثيرون أن التدهور الذي أصاب الوطن العربي يعود الى عوامل داخلية في الأساس، غير أن التحديات الخارجية التي تحول دون انطلاق الشعوب العربية نحو التقدم والرقى كثيرة، وفي تقديري أن المخططات التي تستهدف العالم العربي عامة وسورية خاصة، وإعادة رسم خريطة المنطقة على أسس طائفية، هي أخطر هذه التحديات على الإطلاق ولأن قوى إقليمية ودولية معادية تحاول استثمار بعض التفاعلات المرتبطة بالثورات العربية لوضع هذه المخططات موضع التنفيذ، فلا بد أن نستذكر بأنه في عام 1982م نشرت مجلة كيفونيم وثيقة بعنوان" استراتيجية لإسرائيل في الثمانينات" كتبها أوديد بنون، والتي تنص صراحةً على تحقيق المزيد من التفتت لأمتنا العربية، فضلاً عن مخطط برنارد لويس الذي تم اعتماده رسمياً في الكونجرس الأمريكي عام 1983م، والذي أصبح أساساً لكل تحركات السياسة الأمريكية والغربية تجاه منطقة الشرق الأوسط حتى يومنا هذا، ويتم الآن إعادة بعثه وتطبيقه، والخطط الحالية الساعية لتفتيت سورية وتقسيمها هي من ضمن الأفكار الواردة في هذا المخطط، وهي تفكيك سورية على أسس عرقية ودينية ومذهبية لتصبح أربعة دويلات، دولة علوية شيعية على امتداد الشاطئ، ودولة سنية في منطقة حلب، وأخرى حول دمشق، ودولة الدروز في الجولان.
فالأحداث التي تشهدها المنطقة لعبت الإدارة الامريكية دوراً رئيسياً في صناعتها وتطويعها لصالحها ولصالح حليفتها إسرائيل، والضبابية التي تلف الساحات والميادين العربية والإقليمية وعدد الضحايا الذي يتزايد هنا وهناك وجبل الأوهام الذي يتراكم باسم الحرية والديمقراطية لا يمكن أن تحجب حقيقة أساسية مفادها أن المنطقة دخلت فعلاً لتفتيتها الى دويلات عنصرية وطائفية وزعزعة أمنها واستقرارها.
هذا المنهج التفتيتي هو الذي سارت عليه الدول الاستعمارية حيث عملت على تقسيم بلدان المشرق العربي الى دويلات صغيرة وخلقت لكل دولة مشكلات حدودية مع جاراتها، وما زالت تلك المشكلات عقبة في إقامة علاقات ودية فيما بينها، فشاع الفقر والتخلف والبطالة بين مختلف الشعوب، كل ذلك بهدف إبقاء واقع الاحتلال وتأصيل الاستيطان التوسعي على الأرض العربية.
هناك أمثلة حول ما ذكرته أعلاه والذي لا ينطبق على العالم العربي فقط بل يشمل المنظومة الإسلامية ككل، فالعراق اليوم يشهد فتناً طائفية أشعلته تحت مظلة الديمقراطية المزعومة وفلسطين المنكوبة التي تتسارع فيها حركة حماس ومنظمة فتح واليمن الذي أشعل الحوثيين فيه نيران الصراع المذهبي وأفغانستان التي تتصارع فيه قوتان رئيستان أحدهما مدنية والأخرى دينية متشددة والى باكستان التي تتمزق والصومال التي تتحول من دولة الى شظايا من العصابات والقراصنة وتجزئة السودان الى الشمال والجنوب والى سوريا العروبة التي تحترق وتدمر والى مصر التي تتجه الى انهيار مؤسساتي واجتماعي بالإضافة الى التوترات الطائفية والمذهبية في العديد من دول العالم العربي في المشرق والمغرب على حد سواء.
ما نراه اليوم في سورية من حرب عدوانية وتدمير بنيتها التحتية والاقتصادية والخدمية، بنية تفكيك وتقسيم واضعاف سورية الدولة والوطن، فإن الدول الاستعمارية تسعى الى تفتيتها وفق السيناريو الصومالي عن طريق الإطالة للحرب الداخلية الدائرة في أراضيها لإنهاكها وتدمير مقدراتها وزعزعة استقرارها، وتعميق الشرخ الطائفي والمذهبي وإيجاد مناخ يسوده التوتر والاحتقان ويشجع على اثارة القلاقل والاضطراب واللعب على أوتار الخلافات بين أبناء الشعب الواحد، وتصعيدها والعمل على تحويلها الى صراعات ملتهبة ومستمرة تهدد أمن سورية والمنطقة العربية بأكملها، كل هذا يشجع على تقويض الامن والاستقرار والانزلاق بسورية رويداً رويداً نحو الهاوية، وإشعال حرب طاحنة لن يكون فيها منتصر سوى أعداء الوطن الذين يطمحون الى إيصال سورية الى الدمار والخراب كما فعلوا في دول عربية شقيقة وذلك من اجل تحقيق مصالحهم الشخصية وإيقاف عملية التنمية والرجوع بسورية الى الوراء لعشرات السنوات، وتعزيز انهيار الامن ومنظومات القيم الأخلاقية وتفتيت النسيج الاجتماعي بين مختلف فئات الشعب السوري، وتدمير ما تبقى من المؤسسات السورية التي يعود الفضل في قيامها الى عهد الانتداب الفرنسي والسنوات الأولى من الاستقلال.
كما سعت إسرائيل الى اسقاط الدولة السورية إذ تعتبره إسقاط عمق أساسي للمقاومة وقطع الطريق بين طهران ودمشق ولبنان وتقسيم سورية الى دويلات لإنتاج مزارع طائفية ومذهبية تخوض حروب فيما بينها ولإشغال قوى المقاومة في التحضر للمواجهة الداخلية بدلاً من التحضير لمواجهة إسرائيل وتحويل البلاد العربية الى فسيفساء طائفي وعرقي حتى تظل إسرائيل هي الدولة القوية المتماسكة بالرغم من أنها شتات جامع لليهود شرقاً وغرباً.
إن استمرار شلال الدم في سورية هو مصلحة أمريكية إسرائيلية يريدونها مقسمة وملغاة من دورها في الصراع العربي الإسرائيلي حتى ينجح مشروع الشرق الأوسط الكبير ضد الوجود العربي والقضاء على فكرة القومية العربية وإبقاءها خاضعة للهيمنة الصهيوأمريكية.
هذا الوضع المتردي هو ما يهدف اليه الكيان الصهيوني وما تريده الولايات المتحدة الامريكية من وراء طرحها شعار الشرق الأوسط الجديد الذي سبق أن طرحته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006م.
والذي يمكن أن أكده هنا هو الإحساس بالمرارة والحزن لما آلت اليه أحوال الأمة العربية التي تصدعت كل جبهاتها وباتت في حقيقة الأمر أسيرة لأطماع أكثر من دولة إقليمية تهدد وحدة كيان الامة وتستنزف مقدراتها، وبالتالي فإن الحاصل هو المزيد من الفتن والمعارك الصاخبة بين أبناء الحضارة الواحدة والثقافة الواحدة واللغة الواحدة، إضافة الى المزيد من العنف وما يسفر عنه من قتل وسفك للدماء على حساب البناء والتنمية والتطور الحضاري، وليس من المستبعد أبداً أن تتحول الأفكار التي وردت في الوثيقة الصهيونية الى أمر واقع ولو بعد حين، خاصة بعد الانقضاض على الأمة العربية عن طريق الثورات العربية ومخاطر التقسيم التي تخدم ذات التصور الصهيوني في المنطقة.
في إطار ذلك يجب علينا القيام بالمبادرات الوطنية من أجل الوطن، من خلال توحيد الصفوف لأننا جميعاً نهدف الى تحقيق المصلحة العامة والى رقي الوطن وتقدمه، وعلينا أن ننهض بسورية وأن نجعلها في مصف الدول المتقدمة، وذلك من خلال الترابط والتعاون والعمل كفريق واحد ونبذ كل التفرق والخلافات التي تجر الى التخلف عن ركب التقدم والتحضر، وإشاعة روح التسامح والتعايش السلمي بين مختلف الديانات والمذاهب المتعددة، فضلاً عن نشر القيم الإيجابية بين الناس كالتعايش والمشاركة والالفة والتعدد، وهذا لا يأتي إلا عبر حوار سياسي عاقل تشارك به كل الأطراف المختلفة لتحقيق المصالحة الوطنية.
وأختم مقالتي بالقول إن كشف المخطط الصهيوني لتقسيم البلاد العربية وتعريته هو من أولى الواجبات التي يجب أن تكون من مسؤوليتنا، وما تمر به سورية أنما هو لإضعافها من أجل تسهيل عملية تفتيتها الى دويلات صغيرة، لذا ستبقى سورية قاعدة ضد الاستعمار الجديد الذي يحاول ملء الفراغ في المنطقة بدلاً من الاستعمار القديم، وكما كانت سورية رائدة في التحرر ضد الاستعمار القديم بكل وسائله تصبح أيضاً رائدة ضد الاستعمار الجديد وأهدافه التي ترمي الى السيطرة على سورية، وأن المحبة والتآلف بين أبناء الشعب السوري هو الطريق لتعود سورية كما كانت بلداً عظيماً بحضارته وتاريخه وشعبه مسلمين ومسيحيين.