أكثر ما تخشاه العقلية المستبدة هو أن يصل مدى معارضتها حيث تشع منارة العقل من المكان الذي يتخرج منه أجيال المستقبل من عقر الجامعات.

لقد كانت الجامعات على مر التاريخ منارات خرّجت عقولاً أنارت وعبّدت للبشرية طرقاً كانت وعرة المسالك فخاضت في الواقع بتوجهاته المختلفة وأثرت فيه تصحيحاً ثائراً على واقع مريض مصاب بالجمود والإحباط.

تكمن أهمية التظاهرات الجامعية في كونها تعبير شعبي واحتجاج من فئة واعية تأتي غالباً بعد يأس من تنكر الهيئات الرسمية لمطالب شرعية، سواء بسبب سيطرة الفساد عليها أو بسبب عدم الركون لمطالبها المحقة والمشروعة.

لقد عاب الكثير من المتحججين المشككين بمشروعية التظاهر السلمي أن يخرج المحتجون من أمام أبواب دور العبادة حيث تذرع هؤلاء أن أي حراك تال سيكون حراكاً أصولياً متطرفاً يقوده رجال دين متسلطون منغلقون لا حراكاً شعبياً تنويرياً يقوده شباب متحررين من جمود سلطة رجال دين تحتاج التصحيح. إلا أن بدء خروج التظاهرات من الجامعات وطريقة التعاطي الأرعن والأحمق معها يؤكد الانطباع أن من يؤيد هذه الوحشية في التعاطي مع هؤلاء الشباب هو شخص يحتاج لرعاية نفسية تأهيلية لذاته المشوهة وعملية غسيل طويلة لبعض البقع المعنّدة التي أرهقها الاستبداد زراعة في شخصه المريض.

إن ما حدث من تظاهرات في جامعات القطر كافة (العامة والخاصة) وما لحقها من طريقة عنيفة بالتعاطي ومن محاسبة تشبيحية للطلاب بأساليب أقل ما يقال عنها أنها ترهيبية ضمن حرم يضمن للمتواجدين فيه ومن منطلق قدسية موقعه على الأقل حرية القول والرأي لهو شأن معيب ورخيص يتم تحت مسميات وطنية. تناسى من قام باقتحام الحرم الجامعي مكانته وخضوعه لقوانين الجامعة ما يضمن للطلاب التخلص من سلطة الأمن عنهم، داخل أسوار الجامعات على الأقل.

  إن رد الفعل العنيف التي تم بموجبه التعامل مع الطلاب أفقد المظاهرات سلمية كان ليتم الاحتفاظ بها كون الطلاب ينتمون لبيئات ثقافية واجتماعية متنوعة مما كان سيشكل حصناً منيعاً ويحفظ السلم الأهلي ويمنع حدوث صدامات بين فئات المجتمع المختلفة.

هناك حالات من التهجم على الأساتذة الجامعيين والتشبيح اللفظي وفرز الطلاب لقسمين والسماح بتعدي طرف على طرف آخر وترجيح الحل الأمني حتى لدى من كان يظهر نفسه بأنه مع الحوار كوسيلة للخروج من الحالة الراهنة بأقل الخسائر وإذ به يمارس أعتى أنواع الممارسات البربرية المسلكية.

يجب ملاحظة أن من يذهب بهذا الاتجاه يُفقد أي مرجعية أو هيبة لأساتذة جامعيين لهم ما لهم من احترام ومصداقية بين الطلاب بالمقارنة مع من يمتلك ويتملكه التفكير القمعي العنيف. وهذا ما حصل أيضاً حين تم تشويه أصحاب المكانة الاجتماعية التي كان ينبغي الاستعانة بهم لضبط الأمور من الانفلات.

الأكثر خطورة هو أن تقوم تنظيمات شبابية رسمية جامعية بالقيام بدور يتفوق على ما قام به بعض المأجورين من الشبيحة الجهلة فيستثمرون الانحياز الأمني العنيف البعيد كل البعد عن القانون في قمع المظاهرات الطلابية. إن هذه الظاهرة لهي حالة جد متأخرة في تغلغل مرض العنف الذي يتذرع بالوطنية دثاراً كي يكون لبوسه (وطنياً) يحتفظ فيه أهله بحق ممارسة العنف والتشبيح لأهداف (عليا) حتى مع من يرفع صوته فقط ويحتكم لكل ما من شأنه أن يجعل من سياسة البسطار فوق رأس كل من يخالف فكراً سياسياً منغلقاً أوقع البلاد في خانة التدخلات.

لقد أثبتت الأحداث الأخيرة في سورية أن داء التسلط، والجمود وعدم القبول بالاختلاف قد تجاوز التهمة الجاهزة التي توجه عادة لأصحاب بعض الحركات الأصولية وأن هذه الثقافة يتداولها الفكر الشمولي المسيطر الذي لا يقبل معه بالاختلاف مهما حمل من شعارات براقة توحي بأنه حداثي التوجهات مدعياً حمايته للأقليات أو محاربة التطرف بأشكاله المختلفة.

من المفترض أن يحمل الطلبة لواء تلاقح الأفكار أو مطالب محقة وان تحمل إدارة الجامعات لواء إدارة هذا الحراك وأن توجهه بطريقة لا تصل للصدام، مهما كانت الشعارات التي يتم تردادها جريئة بالمفهوم السياسي، فكيف إذا وصل بها الحال لتكون ذراع الفكر القمعي الأمني في مواجهة أي حراك سياسي، أين هم المدافعون عن الحلول القمعية كي ينقذوا ما تبقى فيهم من وطنية و إنسانية؟ أين الحديث عن القانون حين يخترق القانون ويتم اقتحام الجامعات بشكل همجي وبعيد كل البعد عن أي واجب شرعي ووطني؟هل صحيح أن القانون هو مظلة يستظل بفيئها كل السوريين على اختلاف مشاربهم ومآكلهم وعقائدهم وتوجهاتهم الفكرية مع ما شهدناه في الآونة الأخيرة من اعتقالات طالت طلاباً ضمن الحرم الجامعي بطريقة عنيفة لا يتصورها عقل؟ هل ينسى أحد منا أن تاريخنا القريب كان فيه أهلينا من مثقفي جامعاتنا كانوا يخرجون من جامعاتهم ليعبروا فيها عن توجهاتهم السياسية أو الفكرية؟

إن من يرفض الخطاب السياسي من دور العبادة مع غياب شبه تام للمنظمات والهيئات النقابية التي لا تخضع لسلطات العقل الأمني عليه أن يستوعب أن الجامعات هي المكان الأنسب والأفضل لأي حراك فكري أو سياسي وعليه أن يتذكر أن الخطابات الرئاسية في البلاد التي تحترم مواطنيها تتوجه من داخل حرم هذه الجامعات ويكون الرد الطلابي عليها سلباً أو إيجابا معبراً عن منحى البوصلة التي يستدل منها الرأي العام عما يركن إليه من تصورات أو توجهات لدى الشعب من سخط أو رضى.

إن محاولات التظاهر التي حدثت في كليات القطر المختلفة من طب وعلوم وهندسات في أرجاء مختلفة هي دليل عافية لشعب لم يقبل التدجين الأمني في حل أمور سياسية يجب أن تصل بسوريا لشاطئ الأمان وأن التعامل معها بطريقة حضارية ولائقة هو دليل على مدى تقبل السلطات لإجراء أي حوار مستقبلي.