خلال حوالي نصف ساعة وهو الوقت الذي استغرقه الطريق الواصل من منزلي إلى منطقة المزة اوتستراد في سيارة التاكسي كنت أستمع إلى جملة متكررة يعيدها مغنيها بعزم وثبات أقرب إلى التكرار الآلي وهو بالواقع غير آلي لأن سائق التاكسي كان مستمتعاً ومنسجماً مع هذا الغناء المستمر والكاسيت الداير في المسجل والنغم الاقرب إلى قرع الطبول أو نعيق المزامير ...
كلمات حفرت في رأسي تقول العين اللي ما تحبك أقلعها والقلب اللي ما يحبك أطعنه بسكين .... ما هم هذا العاشق مؤلف الاغنية ؟؟؟؟ هل يريد مشاركة كل الخليقة بحب فتاته ام هي دعوة للحب العنيف حيث الطعن والقلع وسفك الدماء .... وبما ان المعاني تستوقفني أولاً فهذا المقطع يعبر بالضرورة عن ثقافة مجموعة من الناس قائمة على العنف في تفاصيل حياتهم حتى العاطفية منها ..
فهم حين يكونون بحالة حب يعيشون الحالة بعزم وإصرار كبيرين على الإحتفاظ بأحبائهم من مبدأ التحدي وكأنهم يستعدون للحرب والحب لديهم من الممكن أن يتحول لجريمة فيما لو حرموا منه منطق مشابه لردة فعل الطفل الذي نحرمه من لعبة يعتقد انه يملكها فيغضب ويخبط الارض بقدميه ...
أما الموسيقى المرافقة لهذه الكلمات فهي ظاهرياً مستوحاة من التراث الشعبي الذي أبرأه الآن منها فالتراث الشعبي فن راق يعبرعن ثقافة مجموعة من الناس وتاريخهم وهو نغم قديم له عمق وأصالة وتلك الموسيقا (الكراجاتية) التي نتكلم عنها والتي نستمع إليها خلال عبورنا لبعض المناطق والشوارع في دمشق لا تعبر إلا عن نفسها وعن ذوق مستمعيها وهي توليفة صوتية بين مجموعة آلات موسيقية يقودها مايسترو (مبدع) فتارة يظهر المزمار وتارة يخفي الطبل ليظهر صوت مطرب على الأغلب وجد هذه المهنة مصادفة في فراغ الحمام ....
إن التلوث السمعي / الذوقي العام بات من أكثر تحديات الهدوء المطلوب إلزاماً في حياتنا... وله آثاراً فيزيولوجية ونفسية كثيرة وبعضها طويل المدى مثل الصداع والتوتر العصبي والإرهاق وأذيات متباينة في الجهاز السمعي والعصبي فلا يجوز الإستخفاف به ولا بآثاره إطلاقاً ألا يكفينا أصوات السيارات ومكابحها وعويل سائقيها ومشاجرات المتنافسين على المصفات المجانية وآلات الحفر والتكسير لصيانة الشوارع ومداحل التزفيت وآلات تثبيت ديكور البيوت والمحلات التجارية لتأتينا أصوات شبه إنسانية تنعق في آذاننا وموسيقى مشوهة بلا شكل ولا مضمونولا يكفينا نغمات رنين الهواتف الخليوية المنخفضة والمرتفعة الرومانسية والراقصة وطرقات نعلات الأحذية في الفراغات المشتركة .
إن الأمر الأكثر خطورة من وجود هذا الضجيج السمعي المخفف (إذا قبلنا التعريف الفيزيائي للضجيج السمعي على أنه ضجيج المصانع في الدول الصناعية الكبرى) هو بداية تقبل الناس لهذا الأمر وإعتباره عادياً بل والتأقلم معه فالحياة مستمرة وأهم القرارات الحياتية نتخذها ونحن نعبر ساحة الامويين مثلاً في ذروة الإزدحام بات الكلام بالصوت العالي أمراً عادياً والصراخ طبيعياً مع وجود ثقافة سمعية غير نوعية وأصبح الصوت المنخفض يدل على عدم وجود ثقة بالنفس والصوت المرتفع هو منطق الحجة والإقناع وبعد كل هذه الشروط المحيطة بنا يأتي احدهم ليسأل ... أين الحكمة فيما قلت ؟؟؟؟