من يتأمل الوضع السوري المأساوي والمُفجع وقد بات مسرحا صيفيا مفتوحا لكل القوى الإقليمية والدولية تُمثّل فوقه أبشع أنواع السادية والمسرحيات التراجيدية الدموية ، لا بد له من التساؤل : هل ستعود سوريا مجددا ليد أبنائها يقررون شأنها ومصيرها ومستقبلها ،أم ستُصاب بالعدوى اللبنانية وتتحول إلى سوق بورصة يتلاعب فيها من يشاء ويرغب، دوليا وإقليميا ، ويفتح بها الدكاكين والحانات والسوبر ماركات (التي وصفها نزار قباني بمراحيض السياسة) ويُسنِد تراخيصها ووكالاتها إلى زعيم أو حزب أو تنظيم أو فئة أو مجموعة أو عميل ..أو غير ذلك كما الحالة في لبنان ؟؟ وهل أن قرار السوريين اليوم هو بيدهم أم بيد القوى الكبرى في العالم؟.
مصير سورية ومستقبلها يبدو اليوم وكأنه بات بيد القوى العظمى في هذا العالم ،والسوريون المعارضون منقسمون ومُشتتون بين القوى العالمية والأنظمة الإقليمية التي تدفع وتمول هذه الجهة أو تلك ... من يأكل من خبز السلطان عليه أن يضرب بسيفه..هو مثل قديم ولكنه صالح لكل الأوقات ... من يتمول من السعودي عليه أن يضرب بسيفه ، ومن يتمون بالذخيرة والسلاح من الأمريكي عليه أن يطيع أوامره، ومن يرى في إسرائيل مُعينا ، عليه أن يُعينها أيضا في ما تصبو إليه بالمنطقة وفي فلسطين ، ومن يتعيّش من المال القَطَري عليه أن يكون مطيعا وخادما لمصالح قطر ، بل عليه أن يكذب على حاله ليل نهار وفي كل المواقع ويتحدث عن قطَر وكأنها رمز النخوة العربية والسيادة والاستقلال بينما نصف أراضيها قواعد أمريكية ، وبرسالة // س م س// من مبنى البيت الأبيض على بعد آلاف الأميال يهبط أمير ليجلس مكانه أمير آخر ..
وقد تنتابك نوبة من الضحك ربما لا تسمح لك حتى بالوصول للحمام لإفراغ المثانة من شدّة الضحك وأنت تسمع المتعيّشون على الغاز القطري يصفون ذلك (بالديمقراطية) وتناوُب على السلطة بالطرق السلمية، وكأن السلطة وعن طريق صناديق الاقتراع انتقلت إلى حزب آخر تختلف برامجه وسياساته عن حزب هذا الأمير أو ذاك من أبناء الأسرة الواحدة !!...
ومن أمتع المسرحيات الهزلية المضحكة في السهرات العائلية ليلة العطلة هي تلك التي تتحدث عن بلدان الخليج كبلدان ذات قرار وسيادة واستقلال بينما يعرف الشيب والشباب ، الصغار والكبار على امتداد الكرة الكونية أن لا سيادة لحكام تلك البلدان حتى داخل قصورهم ولا استقلال لهم إلا في غرف النوم المغلقة .. وفي صرف المليارات بفنادق أوروبا وأمريكا الفاخرة في رحلات الصيف والشتاء مع جيوش الجواري والحشم والخدم .. وإرسال أكلة اللحوم البشرية لينهشوا لحم سورية ويجعلونها وقودا للحقد والغدر العربي المعروف مُذ عُرِف العرب .. نعم إنه " العقل العربي " الفاقد للوعي الذي تحدّثت عن بُناه " العجيبة " في مقالات سابقة ، وكتَبَ عنه الكثيرون من الكتّاب والمؤلفين من العرب ، وليس من المستشرقين ، حتى لا نقول أن أولئك يشوهون صورة هذا العقل " المشوّه أصلا " بالفطرة لدى البعض – حتى لا نعمم ...
مُعارَضَات سورية ،لاسيما المنخرطة في ائتلافات وتحالفات، كأنها تربّتْ وتثقّفت في السوبر ماركات والحانات والدكاكين اللبنانية ((وهي المصطلحات التي تُعبّر عن ارتباطات وارتهانات غالبية الزعامات اللبنانية للخارج -- مع الإحترام الشديد للوطنيين والمقاومين بينهم -- وهنا علينا التفريق بين الارتباطات والارتهانات من أجل تنفيذ أجندات الخارج على حساب مصالح الأمة ، وبين التحالفات مع قوى خارجية من أجل خدمة القضايا المصيرية للأمة..)).. فلا يمكن للقوات اللبنانية إلا أن تكون ضد مصالح الأمة لأن تكوينها قام على هذا الأساس .. ولا يمكن للأحزاب الوطنية المدافِعة والمقاوِمة إلا أن تكون مع قضايا الأمة لأن تكوينها قام على هذا الأساس ...
السباق والتنافس ضمن ما يعرف (بالمعارضات السورية) على أشُدّه للحصول على اعتمادات ووكالات وتراخيص دولية وإقليمية (أمريكية- فرنسية- بريطانية- تركية سعودية- قطَرية...وهلمّ جرا) وفتح دكاكين وحانات وسوبر ماركات مستقبلا في قلب سوريا، أسوة بالبعض في لبنان ..وكل شيء سيتوفر وبأسعار مُنافِسة ومغرية : عملاء – ارهابيون- انتحاريون- متفجرات - سيارات مفخخة – ألغام – عبوات ناسفة – جعاجع وفتافيت - ذقون طويلة ومتوسطة وقصيرة، بشوارب وبدون شوارب حسب الرغبة والحاجة ... تُلبَي كل الأذواق .. والبضاعة مكفولة .. والشعار دوما الشفافية والوضوح مع الزبائن ، والهدف فقط خدمة البلد والأهل والأحبة ممن يثقون بتلك البضاعة والدكاكين والحانات ، وتلبية أذواقهم المتنوعة بالحرية والديمقراطية (التي هي في الحقيقة ليست سوى كثير من الفوضى وقليل من الديمقراطية) كما أشار رئيس وزراء لبناني سابق ومحترم ...
لا شرط للبيع إلا التقيّد بسياسة المحل التي حدّدها لهم صاحب التوكيل والترخيص .. والشغل مو عيب أبدا وإنما العيب أن تجلس عطَالا بطّالا بلا شغل وتبحث بالبالة عن الثياب لك ولأسرتك ، بينما الفوز بوكالة واحدة أو ترخيص واحد من الخارج يجعلك تغرق بالدولارات خلال أقل من عام .. وتدير ظهرك لمحلات البالة، وصدرك باتجاه أرقى دور الأزياء الباريسية والإيطالية والسويسرية وأشهر الماركات العالمية .. وبدل أن تنتظر على مواقف الباصات العامة يتسارع أمامك ومن حولك السائقون (والبُدي غارد) لفتح وإغلاق أبواب السيارات الفاخرة والمصفحة حسب ما تقتضيه أصول المهنة الجديدة وبما يليق بنوع الوكالة والترخيص الذي حصلتَ عليه ... وسبحان الباري إذا أعطى وإذا أخذ .. فيعطي المال لأصحاب التراخيص والوكالات بلا حساب، ويرسلون له مقابلها الأرواح من أبناء وطنهم سريعا بلا حساب ...
القوميون (وأرجو أن يسامحونني) وبكل التقدير لرموز النضال القومي ، وبنوايا صادقة ، أنتجوا بضاعة أطلقوا عليها ماركة <<الوحدة>> وسعوا لتصديرها بجدية وحماس وترويجها في كل بلدان ( الضاد) التي كانت تهتف: "من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر لبّيك عبد الناصرِ " ، قبل أن ينقلب الشطر ليصبح " من المحيط العا..رِ إلى الخليج الدا..رِ لبّيك إسحاق شامِرِ " !! ولكن أعداء هذه البضاعة والمنافسون لها جعلوا منها بضاعة كاسدة فأصابها الركود وتقلص حجم الزبائن والراغبين وانعدمت الطلبيات تماما ، ولم يعُد لها أسواق تصريف حتى في بلدان المنشأ التي تقطّعت فيها أوصال الوحدة وبات الهدف توحيد محافظَة أو منطقة في محافظة ،حتى لا نقول ناحية ضمن منطقة ..
وهاهي مِصر وليبيا واليمن والعراق ، وسوريا الجريحة... ومن كان البعث لهم هو الحياة والوجود ،يدافعون عنه برموش عيونهم ، ولا يأكلون الجبنة إلا إن كان مطبوع عليها ماركة (البعث) ولا يأكلون اللحمة إلا إن كانت مطبوخة في مطعم البعث، ولا يشربون الحليب ولا الماء إلا إن كان مطبوع على الزجاجة ماء (البعث) ، وحتى لحظة نحر الكِباش في الأضحى يقولون : باسم الله والبعث ، منهم من انقلب اليوم وبات يطعن بالبعث الذي صنع منهم وزراء وسفراء ومحافظين وذلك قبل أن تصنع منهم المعارضة وزراء ومسئولين ومستشارين لديها .. وكأن واحدهم لم يكن يرى البعث حينما كان من عتاة المدافعين عنه ... هؤلاء هم المنافقون بكل الأزمان لا مبدأ لهم ، يأكلون من الموائد ثم يبصقون بالصحون ، همّهم الوحيد الكسب المادي وانتهاز الفرص حتى النهاية ثم الهروب للأمام كما عادتهم لانتهاز الفرص على الموائد الأخرى ..وأقول هذا من باب الاستقلالية الحزبية بعد ابتعادي عن التحزبات .....
اليساريون ، الشيوعيون ، الماركسيون (وخاصة العنيدون بينهم) لم يكونوا يقبلون بأقل من القضاء بالكامل على كل شركات التآمر الرأسمالية في الغرب ، وخاصة في الولايات المتحدة ، ومواجهتها بكل أشكال المضادات الحيوية اليسارية والماركسية العابرة للقارات التي أنتجها كارل ماركس ولينين وماو تسي تونغ وغيرهم ... ففشلت بضاعتهم عن المنافسة وشابَهَا كل أشكال الغش والتزوير حتى باتوا أنفسهم لا يثقون بها ، فراحوا يتسابقون فيما بينهم للفوز بوكالات لدى شركات التآمر الرأسمالية ويحظون بالتراخيص التي تؤهلهم لافتتاح الدكاكين والحانات والسوبر ماركات وعَرْض أحدث النماذج التكفيرية والدينية المتطرفة ، وعقدوا الصفقات من قلب واشنطن أو من قلب سفاراتها في الخارج ، بين فكرهم (الثورجي الأحمر) وبين فكر التكفيريين والمتطرفين والإسلامويين الدموي الأحمر ، والتقى الطرفان على حب وعشق اللون الأحمر ولكن ليس لون الورد الجوري السوري الأحمر وإنما لون الدم السوري الأحمر ...
أسوأ وأخطر ما أنتجته الحالة السورية حتى اليوم ( عدا عن الدماء والدمار) هو تشبهها بالحالة اللبنانية .. فالعمالة وجهة نظر ، والخيانة مسألة نسبية وقابلة للنقاش والأخذ والعطاء .. وعلاقة المُعارض مع أي جهاز مخابرات أجنبي هو كعلاقة المؤيد مع أي جهاز مخابرات في وطنه !! والبعض المُثقف سلعة معروضة للبيع لكل من يدفع السعر المناسب ، ولكثرة المتثاقفين والكساد بينهم كان لا بُدّ من عروض تنزيلات (أوكازيون) بأسعار مغرية !! انفضحتْ وجوه كثيرة كانت تدّعي الوطنية أو العَلمانية أو التقدمية وتبين أن طائفيتها وتعصبها المذهبي أو الإثني هو أقوى من كل انتماء وطني .. اختلطت الأمور وضاعت الحدود وأصبح كل شخص يرى نفسه دولة ، كما الدولة ، ومن حقه أن يرتبط بمن يشاء ويرتهن لمن يشاء ويقبض ممن يشاء ، ويعقد الصفقات ويبرم الاتفاقات مع من يشاء كما تفعل الدولة ..ولا يحتاج لذلك سوى عبارة واحدة لتبرير أفعاله :(أنا معارض ولا أعترف على هذه الدولة ) !!. كم هي حالة خطيرة هذه !!... وأول معانيها أن الوطنية لم تعُد ذات معنى ولا قيمة ، وباتت وجهة نظر أيضا ومسألة قابلة للنقاش والأخذ والعطاء ...
وحينما يصل التفكير لهذا المستوى فعلينا أن نخشى جدا على الوطن ، لأنه لا وطن بلا وطنية ، ولا وطنية بلا وطنيين ، ولكن نحمد الله جدا أن الوطنيين كُثُر جدا، وإن كان صوت الكثيرين منهم مُهمّش أو مخنوق بسابق عمد وإصرار حتى لا يقوى على الظهور، والأسَى يتضاعف حينما يكون المُتسبّب هو من ذات المحسوبين على الصف الوطني .. وأما أخطر ما كشفت عنه الأزمة أننا مجتمعات بدوية ، لا حَضَر بيننا ،، رؤوس ما أن تنقر عليها حتى تكتشف أنها محشوة بالعصبيات من شتَى الأنواع ...أعجز من أن تلامس الأمور من عين الموضوعية والمنطق وروح المصلحة العامة ومصلحة الوطن..المنفعة والإنتفاع والتنفيع على قاعدة الشخصنة هي المبدأ ..والإساءة والضرر والأذى من دافع الشخصنة هي الأساس ...
لم يتعلموا في مؤسسات هذه الدولة (باستثناء القليل) بمثقال ذرة من كل الجروح النازفة للوطن على مدى ثلاث سنوات ، بل استمروا على ذات التفكير الذي تعودوا عليه لعدة عقود وحَكَمَهُ كل شيء إلا المنطق والموضوعية والمعايير.. المفاوضات التي كانت في يوم ما مع الإسرائيلي لإعادة الجولان السوري المحتل لحضن الدولة الواحدة باتت اليوم بين أبناء الوطن الواحد لإعادة أجزاء البلد المتقطعة لحضن الدولة الواحدة ، وهذه المرة ليس من المُحتل الإسرائيلي وإنما أوّلا من ابن البلد الذي رضع من ثدي سورية واليوم يستل السكين ويعمل تقطيعا في هذا الثدي الذي أرضعه... وثانيا من طرف الغريب الذي دخل لتقطيع أوصال البلد من الداخل، تارة باسم الإسلام وأخرى باسم الحرية .. وبات الجولان المُحتل هو أكبر قطعة أرض سورية واحدة..!!! ..
فكم عين يحتاج كل سوري حتى تكفيه لسكب الدمع مدرارا على سوريا ؟؟ مائة عين أم ألف عين أم بعدد سكان سوريا .. وقد بات الوطن يهرب من الوطن والسوريون لاجئون بالخيام في كل مكان خارج الوطن !!..لن ينزعج نزار إن استعرتُ بعضا من قصيدتة في رثاء بلقيس : << ها نحن يا بلقيس ندخل مرة أخرى لعصر الجاهلية .. ها نحن ندخل في التوحش والتخلف والبشاعة والوضاعة ، ندخل مرة أخرى عصور البربرية .. حيث الكتابة رحلة بين الشظية والشظية ..>>. وأقول للراحل نزار : أيها الموجوع بأوجاع الأمة ومصائبها، وقد رحلتَ عن الوجود وأنتَ تعاني من مرض خبيث لا دواء له اسمه ( داء الأمة) : ومتى خرجنا من عصور التوحش والبربرية حتى ندخلها ثانية ؟؟. فالكتابة بالماضي كانت بين قرقعة السيف والسيف ثم تطورت لتصبح بين الشظية والشظية ، وهاهم الأعراب يطورونها أكثر بفعل عِلمهم الذي وصلوا بفضله إلى الفضاء ، لتصبح بين الصاروخ والصاروخ !!..
ولكن رغم كل هذا سيبقى السوريون محكومون بالأمل .. فلا تقلق أيها المبدع الرائع سعد الله ونوس .. ها نحن نسير على خطاك مرددين كل يوم :<< سنبقى محكومون بالأمل>> فهذا كل ما تبقى لنا أن نقوله ونردده بعد سنين من رحيلك .. ولولا أن قلتَ هذه العبارة لكنا نردد كل يوم :<< إننا محكومون بالموت فقط ولكن لا ندري متى وأين وكيف ، وعلى أية بقعة من أرض الوطن ، فكله مسرح للعبث والموت .. وليكتب كل وصيته قبل أن يغادر بيته >>.. ولكن سنبقى محكومون بالأمل ،، فمن الضيق ينبع الفرج ومن الظلام ينبثق النور ...وسنبقى نتطلع إلى يوم نستبدل فيه لون السواد بالثياب والرايات بلون الفرح بالأعراس .... ونُغَنَي جميعا لسورية : وتغندري يا حلوة يازينة ......
كل من خبز السلطان عليه أن يضرب بسيفه .. إنه مثل قديم
https://www.facebook.com/you.write.syrianews