كوننا نعيش في سورية ثقافة ديمقراطية بنكهة مختلفة هذه الأيام، ورغبة في التعود عليها وتعميقها وتعزيزها ، فلا أعتقد أن أحدا سيزعجه النقد الإيجابي الهادف، المنطلق من دافع الغيرة وتجاوز السلبيات وليس العِداء وتسجيل المواقف .. فليس من أحد بمِلاك معصوم ، ومن ينزعج من النقد البنّاء كأنه يشعر بنفسه أنه متّهما ...
والكلام هنا عاما لا يشير إلى شخص محدّد أو مؤسسة معيّنة وإنما يتحدث عن ظاهرة كريهة تنطبق على الكثيرين، وبالمقابل لا تنطبق على كثيرين.. وأجد بمناسبة الانتخابات الرئاسية في سورية فرصة أستذكر من خلالها العشرات والمئات ممن عرفناهم عن قرب على مدى عقود وكنا نعتقد أنهم مثلا وقدوة ولكن للأسف لا ندري ماذا حصل معهم بعد تبوأ المناصب فكانوا بعكس التوقعات !!..
المهم كم من بائعي الأحلام عرفناهم في حياتنا العملية !! وكم من مٌدّعي الوطنية والغيرة والحرص على المصلحة العامة والاستقامة خذلونا بعد أن قفزوا من فوق أكتافنا وأكتاف غيرنا ممن انخدعوا بهم!!... كانوا عاديين مثلنا .. خرجوا من بيننا .. وحينما أصبحوا في مواقع المسئولية حققوا فعلا ما وعدوا به .. ولكن لِمَن؟؟ حققوها لأنفسهم ولزوجاتهم ولأولادهم .. ومن تربَوا على أكل البصل والبرغل بات أولادهم وبناتهم يشعرون بالإحراج إن ذكّرَهم أحد بأيام البرغل والبصل ..
ومن كان يسكن في ملحق على سطح بناء طيني بدائي ويحني رأسه وهو يصعد الدرج كي لا يطرق رأسه بالسقف ، أصبح لا يعجبه إلا الصالونات الفسيحة الواسعة المفروشة بأرقى أنواع الأثاث ، والمُدوكرة بأحدث ما وصلت إليه فنون الديكور...ومن كان يحلم بسيارة (تاراباند أو طرطيرة ) بات أبنائه أو بناته وزوجته لا تعجبهم إلا أرقى سيارات الدفع الرباعي كاملة الأوصاف ومن أفخم الماركات ...ومن كان يذهب لمدرسته حافي القدمين لم تعد تعجبه إلا أحذية الماركات الشهيرة والاستجمام على شواطئ قبرص..
ومن كان يهرع خلف الناس كي يقفوا بجانبه ويراهنوا عليه إن استلم المنصب، وأنه سيخرج الزير من البير ،بات يهرب من الناس الذين قفز من فوق أكتافهم ، وبدل أن يُخرِج الزير من البير ترك الزير وأخرج كل ما في البير من خيرات ليتنعم بها ، وتماهى مع الأضواء والوجوه الناعمة وتسليط عدسات الإعلام على ابتسامته ونرجسيته (لا سيما أن امكانات الإعلام كانت تحت تصرفه) ونسي بؤسه وفقره ووعوده... وصار معارض كمان بعد سنين من تركه للمنصب ، فبات ينتقد كل ما كان هو يدافع عنه من أخطاء وسلبيات ونسي أنه كان ممّن يكمّون أفواه من ينتقد ويشير إلى الخطأ حينما كان مسئولا .. هذا هو النفاق .. وهم المنافقون دوما ، يجيدون الهروب للأمام للتسلق من جديد !! >> ..
ومن كان يُغدق عليك المديح ويأخذك بالأحضان والقُبَل ، تستغرب كيف انقلب مائة وثمانون درجة بعد المسئولية ولم يعُد يعرفك !!! ومن عرِفتَه وعرِفَكَ قبل أن يعرف زوجته وأولاده وأنت معه في ديار الغربة بات من اشدّ الناس لؤما وكيدا وغدرا حينما أصبح يمتلك الصلاحيات ... ومن تعرفه منذ سنين الخدمة العسكرية ( وكان شتْم النظام أسهل عليه من شرب الويسكي) ويكاد يضربك إن خالفتَه الرأي ،وتعْرِف كيف كان يتلوّن بحسب المراحل والظروف ، وكان يُلِحُّ أن تخرج معه في مشوار عائلي في وقت ما ، بات لا يعرفك حينما تتصل معه بعد أن تورّم رأسه كثيرا من الشهرة وهو لا يملك ربع ما تملكه من مؤهلات علمية، ولكنه الفساد (المحسوبية) ألا قاتل الله المحسوبية !!
تناسوا ، أو نسوا أصحاب زمان ، ورفاق زمان ، وأصدقاء زمان ،، فالمناصب الجديدة تتطلب موديلات جديدة من الحياة والعلاقات الخاصّة أقلها : حياة السيارات الفاخرة والشقق الفاخرة والمطاعم والفنادق الفاخرة ، وصحبة أصحاب المال (فكلهم دَسَمْ وشو بدنا بالمنتوفين وشو بيطلع منهم ،هدول بيلزموا بمجالات تانية) !! وطبعا لا ننسى المُرافقة والحشم والخدم ، وتعريم الصدر إلى الأمام والرأس إلى الخلف لأنها من أصول الشغل ، وخاصة إن كانت هناك صحافة منفلتة ،كما في الجوار، تُبرْوِظ وتعرض كل شيء( ويا أرض اشتدّي ما حدا قدّي )، حتى لو مكثَ الواحد عشر سنوات للحصول على إجازة جامعية يتيمة (و مشفّاية) من أية مؤهلات أخرى وأقلّها بضع كلمات بلغة أجنبية !!مام شخص أجنبي
وكل شيء بالحياة الجديدة يجب أن يكون فاخر بفاخر بعد أن توهّم واحدهم أنه أصبح من عائلات (فاخر) أبا عن جد، بينما هو ليس كذلك ، ولا أحدا سيعترف عليه كذلك مهما ردّد من عبارات إنشائية وخطابية مُملّة وممجوجة !!..إنه مرض خاص ( بل هو فيروس ) خاص ببعض العقل السوري، تنتقل عدواه من شخص لآخر بلحظة التسليم والاستلام ، وخاصة إن لم يكن مُطعّما ضد هذا الفيروس ( بالضمير الحي ) والمؤهلات العلمية والمهنية ، والثقة بالنفس ، أو مُصاب بداء المنفخة والتعريم !!
هل تريدون أمثلة ؟ هناك الكثير أستطيع أن أشير إليه على مدى أكثر من أربعين عاما : وزراء ،،محافظين ،، معاوني وزراء ، مدراء عامين ،، سفراء، أعضاء قيادة وغيرهم في مجالات أخرى غير مدنية !! ولكن للأمانة هناك استثناءات كثيرة وهناك مسئولين وأعضاء قيادة ووزراء بقوا متواضعين ومحافظين على الوفاء حينما كانوا في المناصب.. وهناك اليوم من يمكنك أن تتحدث معهم على الهاتف ، وهم لا يعرفوك ، وهذا حصل معي واذكر السيد وزير العدل ،ووزير الإسكان وآخرين في مواقع عليا... وهناك من يمكن أن تتحدث مع الرئيس بشار الأسد ولا تستطيع أن تتحدث مع شخص عادي من حولهم......
تواضَعوا أيها الناس ( ولن أقول أيها السادة لأن أحدا لا يراكم كذلك إلا بمقدار ما أنتم متواضعون وعادلون وموضوعيون ومنطقيون وشفّافون وبعيدون عن التحيّز والشخصنة وتطبقون المعايير والأسس والقواعد في المؤسسات وليس الأمزجة والدّعس على كل المعايير .. فاحترام المعايير يعني احترام المؤسسات واحترام المؤسسات يعني احترام الدولة ،والعكس صحيح ..وحينما نكون أمام مؤسسات فاشلة فنكون أمام دولة كذلك ..
والمؤسسات ما لم تحكمها المعايير والأسس والقواعد ويتساوى أمامها الجميع بلا تحيّز ومحسوبيات فهي فاشلة وتتحول إلى حاضنات تفريخ للغاضبين على الدولة ... فكبار القوم هم خَدَم القوم) .. فمهما بلغ أي منكم فهو لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا ... فامشوا الهوينا فأديم الأرض ليس إلا من أجساد كما أجسادكم!! بل لا أحد منا يعرف بأية لحظة قد يصبح جسده من هذا الأديم الذي تدوسه آلاف الناس كل يوم !!..
تواضعوا يا سادة .. افتحوا مكاتبكم للناس ....وانصتوا لهم بدل أن تتنصتوا عليهم ... حاوروهم واسمعوا رأيهم فهم بشر أيضا ولستم لوحدكم البشر !!! البلد لم يعد يحتمل التعالي والتكبّر والنرجسية والغرور والشللية بالمؤسسات ، ولتُرفع الحواجز بين المسئول والآخرين ، فجدار برلين تهدّم منذ ربع قرن !!... لم تكونوا في مواقعكم لأنكم الأكفأ والأحق ، ولكل منكم العشرات وأحيانا المئات من البديلين ، ولكن أمراض البلد نعرفها ، هذه الأمراض هي من رفعت من شأن من لا يستحق وهمّشت من شأن من يستحق ،،،وحطّمت مبدأ تكافؤ الفرص ...والنضال الأكبر بعد الهدوء في سورية ،وعودة الأمن والأمان، الذي نرجو أن يكون قريبا ، هو النضال ضد هذه الأمراض والثقافة والعقول التي لم ترتفع لمستوى الكراسي ولم تسعى لتأسيس مؤسسات دولة حقيقية بل مؤسسات مزارع ،، وإلا ستبقى العواصف تهدد الوطن... وتزعزع الاستقرار وإن بطريقة أو بأخرى ...
هناك أمراض علينا أن نعترف بها والمُسكّنات لا تجدي معها ، فهي تحتاج إلى الجراحة وهذه لا تنجح إن لم يكن التشخيص صحيحا ، والاستخفاف بالمرض يعني تركه يستفحل حتى يتعذر علاجه .... تعلّموا ... استفيدوا من التجارب ...فكّروا بما يفكّر به عامة الناس وليس بما تفكّرون به أنتم فقط ...تعاملوا مع البشر كما تحبون أن يتعامل الآخرون معكم ومع أبنائكم(( الذين تقلبون الدنيا إن شكى واحدهم من أمرِ ما ولا تقبلون لهم ما تقبلونه لغيرهم ومن منكم يقول عكس ذلك فهو بالتأكيد غير صادق ))
وحينها فقط تشعرون بما يشعر به كل مواطن وتعرفون معنى المعاناة أو الظلم .....اقتربوا من الناس يقتربون منكم ، وابتعدوا عنهم يبتعدون عنكم ... اهتمّوا بشؤون الناس كي يكونوا بجانبكم وأديروا لهم الظهر فسيديرون ظهورهم لكم .. بل قد يديرون لكم الصدور ولكن للمواجهة والصراع وليس للتقبيل والعناق!!.
فهل لكُم ونحن على أعتاب مرحلة جديدة في تاريخ سورية ، بعد أحداث أليمة ودامية لم تنتهي بعد ؟؟ أم من شبَّ على سلوك شابَ عليه ؟؟ هلّا علِمتم كم أفرزتْ هذه السلوكيات أعداء وخصوما كانوا معكم فانقلبوا ضدّكم وضد الدولة التي حيّرتْ الناس بكيفية الاختيار لمواقع المسئولية ؟!(بالماضي طبعا ).. !!!. الكلام الجميل يمكن أن نقرأ أجمل منه عند نزار والجواهري وجبران خليل جبران ،فهذا لا يعني شيئا إن لم يقترن بالفعل والتطبيق ... ونريد أن نرى أفعالا صحيحة في المؤسسات وليس أمزجة وكيديات ومزارع .........
https://www.facebook.com/you.write.syrianews