كم يبدو الرئيس التركي رجب أردوغان ساذجا حينما
يطالب الولايات المتحدة من سَحْبِ قواتها من مدينة منبج السورية في الشمال إلى
الغرب من نهر الفرات والتي تسيطر عليها القوات الكردية المدعومة من الولايات
المتحدة، المعروفة بقوات سورية الديمقراطية.
الولايات المتحدة خسرت القليل في سورية ولكنها أخذت الكثير. فهي حصلت على قواعد
عسكرية تقدّر بإثنتي عشر قاعدة. وتواجُد عسكري أمريكي كانت الولايات المتحدة حتى
الأمس القريب تعتبره أبعد من الحُلُم، ولكنه بات اليوم أمرا واقعا، فهل ستتخلى عن
ذلك بهذه البساطة ونتيجة لنداءات أردوغان أو غير اردوغان؟.
ساذج كل من يعتقد أن الولايات المتحدة وبعد أن غرست مخالبها في الأراضي السورية سوف تنزع هذه المخالب ببساطة. فلم يسبق أن تواجدت الولايات المتحدة في مكان وخرجت منه بطيب خاطرها، إلا مُرغَمة أو بعد أن تُرسِّخ حُكما دُمية تابعا لها كلية ويأتمر بأوامرها.. وحينها تُبقي على القواعد وتُخفِّض من عدد أفراد جيشها.
الولايات المتحدة تتطلع إلى مساحة من الأرض السورية لتقيم عليها القواعد وتُكرٍّس
وجودها العسكري، وقد وجدت ضالّتها هذه في المُكوِّن الكردي ، أو لِنقُل بعضا منه،
لا سيما التنظيمات الكردية ذات التطلعات القومية، وكانت ذريعة محاربة داعش الخطوة
الأولى لدعم الأكراد ومساندتهم في الرقة وخارجها للقضاء على داعش ثم تمكين تلك
التنظيمات الكردية من الأراضي التي طردوا داعش منها. وهذا ما وجدت فيه الولايات
المتحدة مناطق نفوذ لها من خلال واجهةٍ سوريةٍ اسمها (المكون الكردي) . فكل مكان
يسيطر فيه الأكراد المدعومين أمريكيا فهذا يعني حُكما مناطق نفوذ أمريكية. وها هي
تُفاخر أنها تستولي على 30 % من الأراضي السورية..
ومما تقدم فإنه من العسير على تركيا أن تُقنِع الولايات المتحدة بالتخلي عن الأكراد..
فإن هي تخلّت عن الأكراد فهذا يعني أنها تخلّت عن قواعدها وعن نفوذها وسيطرتها على
قسم من الأراضي السورية.
الولايات المتحدة (كدولة استعمارية تبحث دوما عن مناطق النفوذ والثروات) همُّها
أرضا سورية تابعة لنفوذها وتخضع لسيطرتها، وتركيا ليست في موقع تأمين هذه الأرض
للولايات المتحدة.. أما الأكراد فقد وفّروا لها ما كانت تطمح إليه، ولذا لن تُضيع
هذه الفرصة، أو تتخلى عن الأكراد، ولن يسمحوا لتركيا بتجاوز حدودها معهم وملاحقتهم
شرق الفرات، ولا حتى غرب الفرات في مدينة منبج. فالأكراد هم البوابة الواسعة التي
دخلت الولايات المتحدة من خلالها ، وهم الحاضنة لها في أراضيهم، فكيف سوف تسمح لأيٍّ
كان بتحطيم هذه البوابة؟. ومن هنا نفهم لماذا الولايات المتحدة دعمتهم في مواجهة
داعش ولم تسمح لغيرهم بالمشاركة في تحرير مدينة الرقّة ومن ثمّ السيطرة عليها.
نهر الفرات، وحتى من مدينة منبج غرب نهر الفرات، وبإتجاه الجنوب إلى بحيرة الأسد ثم
شرقا نحو مدينة الرقة ومتابعةً نحو الشرق حتى مدينة دير الزور، فكل هذه المناطق و
إلى الشرق من نهر الفرات، فهذه مناطق تخضع لنفوذ الولايات المتحدة، وهي أشبه بخط
العرض 38 الذي رسمتهُ كل من الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي بعد الحرب
العالمية الثانية كفاصلٍ بين الكوريتين ريثما يحصل الحل السياسي ويتوحد الشطران،
ولكن حتى اليوم لم يحصل الحل السياسي ولم يتوحد الشطران وبقي الخط الفاصل .
فمن المعلوم أن حربا أهلية قامت بين الكوريتين بين عامي 1950- 1953 وقد دعمت الصين
بقوة كوريا الشمالية، كما دعمها الإتحاد السوفييتي، وبالمقابل دعمتْ الولايات
المتحدة كوريا الجنوبية بقوة، وتوقفت الحرب بعد التوصل إلى قرار لوقف إطلاق النار
بتوافق أمريكي صيني سوفييتي، وبقي التقسيم على حاله .
هناك شبَهٌ اليوم بين الحالة السورية والحالة التي سادت في شبه الجزيرة الكورية
لِجهة التدخلات والإصطفافات الدولية ومصالح هذه الدول التي عقّدت الحل في كورية،
وهكذا بقيت شبه الجزيرة الكورية مقسّمة ورهينة لمصالح القوى الخارجية، وهذا هو
الحال في سورية اليوم.
القصف العنيف الذي شنّته الولايات المتحدة في شمال شرق دير الزور ضد بعض القوات
الرديفة للجيش السوري صباح 7/2/2018 والمبالغة في الرد، لم يكن سوى رسالة واضحة وهو
أن هذه المناطق الواقعة شرق نهر الفرات تقع تحت الهيمنة والوصاية الأمريكية والقوات
الكردية التابعة لها، وبالتالي ممنوع الإقتراب منها. وبالتأكيد هذا يشكل ترسيخا
لفصل تلك المناطق عن بقية الوطن السوري وخلْقِ كيان كردي فيها تابع للولايات
المتحدة ويأتمر بأمرها ويتمتع بحمايتها ومساندتها ماديا وعسكريا.
ولذا أقول مجددا أن الولايات المتحدة لن تصغي لأردوغان ومخططاته في محاربة الأكراد،
فرهان الولايات المتحدة كله على الأكراد ومناطق الأكراد، أو المناطق التي يسيطر
عليها الأكراد. وليس هذا حُبّا بالأكراد، فالولايات المتحدة ليس لها حبيب سوى
مصالحها، ومصالحها تقتضي مساندة الأكراد وخَلقِ كيان لهم تقيم عليه قواعدها ويتواجد
فوقه عسكريوها في هذه المنطقة الإستراتيجية من الشرق الأوسط. ولذا فهي لن تضحي بهم
وهُم حاضنتها فوق أراضيهم ولا يعنيها غضب أردوغان ولا تهديداته. وبالطبع أردوغان لن
يتجرّأ على تجاوز الخطوط الحمراء التي ترسمها له الولايات المتحدة، وبالتالي فكل
تهديداته باقتحام منبج، والانتقال بعدها إلى شرق الفرات، كلها فقاعات ماء سرعان ما
تتلاشى أمام الخطوط الأمريكية الحمراء.
وبذات الوقت فإن مطالبة موسكو للولايات المتحدة بالخروج من سورية كونها جاءت كدولة
استعمارية مُحتلّة ووجودها لا يستند إلى أي شرعية ودون دعوة أو موافقة من الحكومة
السورية، فكل هذه الدعوات لم تجد لها صدى لدى واشنطن، وفي كل مرة كانت تدعو روسيا
لخروج الولايات المتحدة كان يأتي رد الفعل أن الولايات المتحدة باقية حتى القضاء
على القاعدة وحتى لا يعود الإرهاب وحتى يتم التوصل إلى حل سياسي في سورية، وهكذا ..
وحقيقة الأمر أن الولايات المتحدة تعتبر أن تواجدها في الشمال والشرق، هو مرادفٌ
للتواجد الروسي في الغرب وغيرهِ ، وأنه ضروري في وجه إيران، ووجودها ضرورة
إسرائيلية قبل أن يكون ضرورة أمريكية، وحيث تتواجد أمريكا يعني حُكما تواجُد
إسرائيل، وخاصة في منطقتنا التي تعيش صراعا عربيا إسرائيليا منذ سبعون عاما، وتتحيز
فيه الولايات المتحدة بالمطلق للعدو الإسرائيلي.. ولذا فلا أعتقد أنها ستخرج من
سورية بينما تبقى روسيا وإيران، حتى لو كان وجود روسيا وإيران بدعوة من الحكومة
السورية بينما الولايات المتحدة موجودة بالقوة .
لقد وقفنا في سورية بقوة ضد الغزو الأمريكي للعراق، وخشينا بعدها من أن يتمدد هذا
الغزو نحو سورية، وللأسف الشديد فقد تمدّد، ولكن بأيدينا نحو السوريين جميعا الذين
أخفقنا من تدارُك مشكلتنا بأنفسنا منذ البداية وإيجاد الحلول قبل أن تغرز الدول
المتربصة مخالبها في صدور السوريين وأراضيهم، ونضيعُ بلدنا بين كل الأطماع
الإقليمية والدولية.
وحتى لو افترضنا حصول حل سياسي وعلى اساس قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وتشكلت
أخيرا حكومة سورية بعد انتخابات رئاسية وبرلمانية متعددة وحرة، وتم الإعتراف
بشرعيتها من كل دول العالم، فلن تخرج القوى الأجنبية من سورية حتى لو طلبتْ الحكومة
المُشار إليها بذلك، ولن تخرج إلا بقرار من مجلس الأمن الدولي وموافقة الدول الخمس
دائمة العضوية، وهذا أقرب للخيال إذ ستتذرع الولايات المتحدة بالتواجد الروسي
والقواعد الروسية، وتستخدم حق النقض (الفيتو) ضد أي قرار يطالب بخروجها، وكذلك
ستستخدم روسيا حق النقض ضد أي قرار أمريكي أو غربي يطالب بخروجها، وستبقى سورية إلى
أمدٍ غير معلوم ميدانا مفتوحا للعبة الأمم، وسيصبح السوريون كما اللبنانيون، لكلِّ
طرفٍ داخلي طرفٍ خارجي يستند إليه ويتلقّى منه الدعم، ويخدم مصالحه.
أمر مُحزِن جدا أن تصل سورية التي طالما تغنّت بعروبتها وعزّتها وكرامتها وقرارها
المستقل ووحدة شعبها، ورفضها للقواعد الأمريكية في أبعد نقطة على وجه الكُرة
الأرضية، بل حتى رفضها للقواعد الأجنبية، حتى لو كانت دولا صديقة، أن تصل إلى هذا
الحال.. ولكن أليس هذا هو الواقع المنظور؟.
والأمر الخطير والمُحزِن أكثر هو انهيار كل مفهوم الأمن القومي العربي المشترك، بل
تآمُر بعض الدول العربية بذاتها على هذا الأمن القومي العربي المشترك والذي كان
مترابطا منذ ألف عام، ولكن عرب الزمن الحاضر حطموه بأنفسِهم.. وإن كان هناك من
يستغرب ترابُط الأمن القومي العربي منذ الف عام، فأحيلهُ إلى قصيدة الشاعر العربي
الكبير " المتنبّي" الذي امتدح فيها سيف الدولة الحمداني، أمير حلبْ، حينما خاطبهُ
قائلا:
كيف لا يأمنُ العراق ومصرُ + وسراياك دونها والخيولُ
أنتَ طول الزمان للروم غازٍ + فمتى الوعدُ أن يكون القفولُ
لو تحرّفتَ عن طريق الأعادي + ربطَ السِدرُ خيلهم والنخيلُ
وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ + فعلى أي جانبيك تميلُ
إذا الربط واضح جدا بين أمن بلاد الرافدين، يعني بلاد الشام، حيث أن قسما كبيرا من
العراق يدخل ضمن مفهوم بلاد الشام، وكذلك بين أمنِ وادي النيل، أي مصر والسودان،
ومدى ترابط هذا الأمن ببعضه، ولولا دفاع سيف الدولة عن ذلك لتمكّن البيزنطيون من
التوغُّل داخل البُلدان العربية والسيطرة عليها وربَطوا خيولهم على شجر النخيل في
العراق وشجر السِدر في مصر..
إذا ترابُط الأمن القومي العربي موجود منذ ألف عام، ولكن حينما كان هناك عربا بمعنى
العرب وليس عربا دمية بيد القوى الأجنبية، كما عرب اليوم ..