لا أدري كيف يمكن لثقافة تحمل في ثوابتها أفكاراً مثل {شرب أبوال الإبل} , و{إن سقطت في صحنك ذبابة فاغمسها كلها لأن في جناح الذبابة داء وفي جناحها الآخر الدواء لذلك الداء} ، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة لا أدري كيف يمكن أن تصمد هذه الثقافة في عصرنا اليوم .. عصر الفكر ، والعقل .. عصر الذرة ، وعصر النانو ، وعصر الاكتشافات والاختراعات بدءاً من سطح القمر ، وانتهاءاً بروبوت آلي له مشاعر .!!!
لا ندري ما دور هذه الثقافة التي تحمل هذه المعتقدات في عصرنا الحالي ، خصوصاً إن علمنا أن هذه التفاصيل (أبوال الإبل وما شابهها) هي من ثوابت هذه الثقافة ، ومن مسلّماتها ، فلا أحد من المتدينين يجرؤ أن يؤوّل أو يكذّب هذه المفاصل وغيرها ، لا سيما أنها واردة في كتب لا تقبل التشكيك ولا للحظة ، ككتب البخاري ومسلم ..
هذه القضايا من شأنها أن تجعل فجوة كبيرة بين المتدينين ، وبين الواقع .. وبين الدين وبين العلمانية ..
فالعلمانيون لا يرون مكاناً لأهل هذه الثقافة في العصر الحالي ، ولا يجدون في وجودهم إلا مزيداً من التخلف والتقهقر للخلف أمام الدول الغربية المتحضرة والعلمانية ..
خصوصا عندما نجد بين طيات أفكارهم الأبوال ، والنخامة ، والبعوضة ، وجناح الذباب ..
كيف لا يكون ذلك والعلمانيون ، والواقفون إلى الطرف الآخر من الدين والتدين -سواء من اطلع منهم على الشريعة الإسلامية وفكرها أم لم يطلعوا- لم يجدوا في هذا الدين كله ، وفي الشريعة كلها ، وفي آلاف النصوص الدينية وتأويلاتها ، وتفاسيرها ، وآراء الأئمة ، والدساتير والقوانين الدينية ..
لم يجدوا من ذلك كله إلا بضعة نصوص ، وبضعة أفكار ، ثانوية الطرح ، وثانوية التأثير ، وثانوية الاهتمام ولا تكاد تُذكر أمام ما رسّخه الإسلام ورسّخته الشريعة من مفاصل هامّة في كل أمور الحياة ..
فقد تبعوا أبوال الإبل ، وأجنحة الذباب ، تاركين وراءهم كل ما جاء في التشريع من علوم وقواعد ودساتير ضمنت لمن تبعها يوماً من الأيام أن تصل جحافله حتى فيينا ، وأدغال إفريقيا ، وأسوار الصين ، ومغاور الهند والسند ..
تبعوا أبوال الإبل وتركوا ما في الدين والشريعة من السياسة .. والاقتصاد .. والإدارة .. والتاريخ .. والفلسفة .. والتأويل .. والاجتماع ... والقضاء ...والأدب ... وغيرها من العلوم ، سواء القديمة التي طوروها ، أو العلوم التي لم يعرفها العالم قبلهم ...
تبعوا أبوال الإبل تاركين وراءهم نصوصاً لا تحصى تذكر منازل القمر ، وطبقات الأرض ، والرياح المسخّرات ، والبرزخ بين بحرين لا يلتقيان ، وانفطار السماء ، وانشقاقها ، وتذكر السمع والبصر والفؤاد والروح .. وغير ذلك من النصوص الكثيرة التي ما زال علماء الغرب والعرب يعملون على دراستها منذ أربعة عشر قرنا وإلى اليوم ...
تبعوا أبوال الإبل وتركوا علوماً شتى حواها هذا التشريع كبستان مليء بالزهور ، فمن أي زهرة شئت قطفت ومن أي ثمرة شئت أكلت ، ولا يعنيك من ترك كل الأزهار ، واعرض عن كل الثمار ، وأقبل على أبوال الإبل ..
من الممكن ألا تجد هذه النصوص (الصحيحة) مكانها اليوم في ثقافة الغرب .. ولكنها ثوابت في ديننا ، وعثر الكثيرون من العلماء على مطابقتها مع العلم .. رغم أن هنالك رفض لتصديق ذلك ..
وهذه الأفكار إن سلّمنا أنها لا مكان لها اليوم ، فإنه لابد أن نعلم أنها لم تجد مكانها بالقبل أصلاً .. ولم تكن جزءاً من الدولة الإسلامية ولا تشريعها ولا قانونها أو دستورها ..
ليس بهذه النصوص فتح المسلمون الدنيا ، وملكوا نصف العالم ، وأسسوا قواعد العدل في كل مكان ..
فلا أظن أن خالد بن الوليد كان يحمل في يمينه سيفاً وفي يساره قارورة من بول الإبل وهو يفتح العراق ..
ولم يكن أبو عبيدة يحمل كيساً من أجنحة الذباب عندما أرسى الأمن في دمشق ..
ولا أعتقد أن عمر ابن الخطاب قد وضع في عهدته العمرية النصوص هذه التي ذكرت فيها الذباب والإبل والبعوض والأبوال والنخامة فأعطوه مفتاح القدس فأمنهم على حياتهم ودينهم وعبادتهم ، وساوى بالاحترام بين الكنيسة والمسجد ...
وليس من المعقول أن أهل القدس خرجوا في الطرقات يشربون قوارير الأبوال فأمنهم صلاح الدين على حياتهم ، وقد جعل -من دخلها قبله- شوارعها أنهاراً من الدماء ، وأبراجاً من الرؤوس ، وبحيرات من الأجنّة التي خرجت من البطون المبقورة..
لن يكون هنالك توافق بين الدين والعلمانية طالما أنها تعتبره عدواً لها ، واقفاً في طريقها ، تترك كل الخير الذي يحمله للبشرية ، والذي من خلاله أرسى قواعد العدل في العالم ، وتتبع ما من شانه أن يزيد في الهوة بينه وبينها ..
حتى يأتي اليوم الذي تزيله من طريقها ..
إن الالتزام بالشريعة الإسلامية كلّها ضمن للدولة الإسلامية أن تسبق الدول العظمى بمراحل ، وأن تتخطاهم بدرجات تفوق المراحل التي تفصل اليوم بيننا وبين الغرب ربما عشرات الأضعاف ..
وإن قلنا أن الالتزام بالشريعة كلها ، فنحن نقصد بكلها ليس فقط ما يأخذه العلمانيون من مفاصل جزئية لا تشكل (رغم أنها ثوابت) أي جزء من النظام الإسلامي أو نظام الدولة الإسلامية ..
كمفاصل أبوال الأبل ، أو اجنحة الذباب أو غيرها ..
بل نقصد العدالة الاجتماعية بكافة مفاصلها ، التي تسمى اليوم بالحكومة ، والتي تضم مفاصل الدولة كلها والوزارات كلها ...
..........
هذا هو النظام الإسلامي ، وهذا هو الفكر الإسلامي ..
بل اسمحوا لي أن أقول أنني أوردت جزءاً صغيراً جداً ، من مفصل صغير ، من زاوية ضيقة ، من جانب واحد من جوانب عظمة الشريعة الإسلامية
فكيف لو جئت بها كلها ؟؟
فهل ستصمد العلمانية حينئذٍ أمام الدين ؟
أم أن ثقافة العلمانية هي التي ستظهر بمستوى بول الإبل ..؟؟