قيل:"إن كنت لا تعلم وكنت تعرف بأنك لا تعلم فتلك مصيبة, وإن كنت لا تعلم وتعتقد بأنك تعلم فالمصيبة أعظم"
بداية, أي انسان مهما كان بسيطا فهو لابد على شيء من المعرفة والعلم، لأنه وببساطة انسان. فالمعرفة هي احدى خصائص هذا المخلوق. مع ذلك فإن أفرادا من البشر ربما يكونوا على قدر أكبر من العلم وأكثر قدرة على اكتساب المزيد وهم ما يصطلح عليهم بالعلماء أو طلاب العلم بغض النظر عن أي فرع من فروع العلم. يعملون به
العلم بالمفهوم التعريفي هو عبارة عن القواعد والقوانين الناظمة للظواهر الكونية حولنا بما يقدم لها تفسيرات مطلقة نضبط بها نشاطنا العقلي وتساعدنا على
فهم تلك الظواهر وفقا لحواسنا ، بل نتجاوز حدود حواسنا الخمس فنستطيع رؤية مالا تراه عيوننا ونسمع مالا تسمعه آذاننا كأفراد، أو لتضبط أداءنا كمجموعات بشرية فنحاول ترويض الطبيعة من حولنا. هنا يمكن لنا النظر إلى كائنين متفاعلين هما العلم والانسان الذي يحمله. أما الانسان فهو متلق للعلم بمعنى أن الانسان هو من يبحث عن العلم، لا العلم من يصب ذاته في عقل الانسان بدون بحث ومجهود وتفكير، لذلك نطلق على من يفسر ظاهرة كونية بشكل علمي بأنه مكتشف وليس مخترع لأن نشاطه العقلي قد نجح بتوصيف تلك الظاهرة ووضعها في إطار يمكن استيعبها به ولكنه لم يساهم بوضع تلك الظاهرة مثلا ابن الهيثم وصف القواعد الأساسية لانتشار الضوء ولكنه لم يصنع الضوء
فالظواهر الكونية موجودة سواء وجدنا كبشر أم لم نوجد، شئنا أم أبينا . وما علينا إلا فهمها ووضع قواعد الاستفادة منها في خدمة الانسان، وبالتالي العمل على اكتشاف تلك القواعد وصياغتها بلغة ما مفهومة منا ، قد تكون تلك اللغة وضعية أو رياضية تجريدية بحيث نستطيع أن نتداول تلك المعلومات من شخص لآخر . وفي إطار هذا المفهوم يمكن النظر للعلم أيضا على أنه كائن منفصل و مستقل عنا وعلينا التعامل معه ، فإن حظينا به فعلينا رعايته والتمسك به لأن به الرفعة والقدرة على التحكم بأنفسنا وبالظواهر الكونية من حولنا. وإن حرمنا منه فإن طلب العلا ليس بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا. هنا أصل إلى لب الفكرة والتي سأطرحها على شكل السؤال التالي:
ما هو تأثير العلم على أخلاق الفرد ؟ وما هي أهم صفة من صفات العالم (طالب العلم) الخلقية التي يجب أن يتمتع بها بغية تعزيز كائن العلم الموجود بداخله؟
للإجابة، هناك قول قد يحوي على جزء من الجواب على ذلك السؤال هو: "آفة العلم النسيان". ولكن من جهة أخرى رأيت آفة أخطر، ألا وهي التكبر (أو الاستكبار) ، وبرأيي هو أخطر آفة من آفات العلم. صحيح أن العلم يرفع بيوتا لا عماد لها ولكن التكبر (وهو أحد وجوه الجهل) يهدم بيت العز و الكرم .
إن سمو الخلق مطلوب عند كل البشر لتعزيز قيمة الانسان ولكن عند طلاب العلم (العلماء) مطلوب بشكل أكثر إلحاحا. لماذا؟ لأنهم يعلمون ولأنهم يفترض بهم أن يحظوا بحساسية أكبر اتجاه الانسانية.
إن جزء كبيرا من التكبر أو التواضع لمن عنده شيء من العلم يطفو مباشرة على سطح أي حوار معه/معها سواء كان الغرض من الحوار نقل المعلومات أو عند النقاش مع الآخرين لاستبيان الرأي الأنسب. فمن الناحية العلمية إن أصعب حالة للنقاش هي عندما يمارس أي انسان يظن بنفسه أنه يلم بالعلم من أطرافه ويضع كل من يحاوره بمنزلة أدنى ، ثم يطلق أحكاما عامة لا تستند إلى المنطق العلمي بالبحث والبرهان المنهجي، ومن ثم ينجح لسبب من الأسباب بالإقناع ويتابع بإرجاع ذلك النجاح لإمكاناته الشخصية وبعجرفة ينسب كل الفضل لذاته ناسيا فضل الكائن العلمي الذي تلاحم معه في عقله وأن مجده أتى من ذلك ذلك الكائن لا من جسده الفاني.
لننظر نحو الوراء في التاريخ، نحن لا نعرف كثير أبطال البشر ذوي البنية القوية ، مثلا نحن لا نعرف أو لا يزيد في معلوماتنا شيء إن عرفنا أي من الذين امتلكوا بنية قوية وأجسادا ضخمة صارعوا بها الأسود في حلبات المصارعة بالعهد الرومي. ولكن أكثرنا يعرف أسماء لامعة في العلم مثل أرخميدس و أرسطو وغيرهم.
إن الرفعة تأتي من العلم لا من الشخصية ولا مبرر لأي انسان ان يتكبر على أحد لأنه بذلك سيرى كل نصيحة ثقيلة الوقع عليه وسيعيش واهما في فكره المنغلق وسيفقد الحوار معه كل معنى وسيتحول الحوار معه إلى ما يدعى بحوار الطرشان وسيمنع الحوار العلمي المنتج. إن جوهر الحوار هو أن يري كل طرف الطرف الآخر مالا يراه مما يساهم في تكامل قدرات بني البشر. وفي حالة التكبر فإن أحد الأطراف لن يرى إلا نفسه في مرآة الحوار، ولا يوجد هناك بشري واحد يستطيع الادعاء بأنه يعرف كل شيء "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" . إن التكبر كآفة من آفات العلم يقف حائلا في طريق إزالة التفسيرات الخاطئة وبالمحصلة يعيق التقدم المعرفي الكامن في مقدرات البشر وطبعا هذا ينطبق على أي نوع من أنواع الحوار العلمي وغيره.
من أوجه التكبر العلمي ما توارثناه عن أسلافنا في تراثنا الفكري، فنجد مثلا مخطوطا أو كتاب من تأليف أحدهم يقدم كما يلي: تأليف العالم العلامة والفهيم الفهامة محيط العلوم نادر عصره وزمانه .....الخ إلى أن نصل الى الاسم الانساني لمؤلفنا المتواضع ، الاسم الذي كانت تناديه به أمه وهي تشد أذنه لأنه لم يستظهر درسا. ومع أن الغرض من الكتاب ، أي كتاب هو المساهمة في تدوين المعرفة وحفظها ونقلها إلى الأجيال اللاحقة ، فإن المؤلف إن أضاف كل تلك الألقاب أم لم يضفها فإن تلك الغاية سوف تتحقق إن كان للمعلومات المنقولة قيمة ما أكان المؤلف بحر أم نهر أم ساقية علم.
إن ذكر اللقب العلمي واجب في بعض الأحيان لإعطاء فكرة عن مستوى علاقة الانسان بعلمه ولكن عندما تتحول تلك الغاية إلى حالة من إظهار الذات و للتمييز عندئذ تنقلب إلى تكبر علمي وتعكس رغبة بالاحساس فوق البشر العاديين لتعزيز احاس مرضي .
أعتقد أن التقدير يجب أن يكون لمقدار العلم و لنوعيته بالإضافة إلى الشخص الذي يحمله وليس فقط للشخص وإلا برز الشخص على حساب العلم.