في كل صباح يستيقظ الفقر من نومه منهكاً , مرهقاً , لأن الأرق شاركه سريره الضيق المكسور , يطل برأسه من نافذته الخشبية على الحياة
فيجد بانتظاره الشتائم واللعنات مكدسة بالأكوام , إلا هذا اليوم فقد لفت نظره رسالة مدسوسة تحت الباب داخل مغلف أبيض أنيق , تدل على مفاجأة غير متوقعة
صباح الخير أيها الفقر
منذ مدة طويلة وأنا أهم بكتابة هذه الرسالة لك ,, ترددت كثيراً , وكتبت ومزّقت , لكني حزمت أمري وعلى الله توكلت , أعرفك بنفسي أولاً فهذا من أدب الرسائل , أنا الغنى.. أنا وأنت لم نكن أصدقاء يوماً فلكل منا درب وجهة , هكذا كنت أظن , وكم كنت مخطئاً , فقد كشفت لي عيشة القصور والموائد العامرة أن لي أخ توأم , لكنه تاه عني في هذه الحياة , وأنت توأمي أيها الفقر! .
صحيح أننا غير متشابهين في الشكل لكننا غالباً ما نسكن شخصاً واحداً , نمسك بأيد بعضنا , أحدنا يقطن داخله والآخر يتجه لمظهره أو العكس . هل تعرف الكاتب" مارتن توين " ؟ لقد قال : " الفقر يجيده كثير من الأغنياء " . فرغم مظاهر الترف والعز التي أزينهم بها إلا أنك تتغلغل في نفوسهم فتنعكس ألوانك الكالحة على أفعالهم وأقوالهم.
نمتزج أنا وأنت ونتداخل بنسب متفاوتة , فيكون المرء فقيرأً بالنسبة للأغنى منه وغنياً بالنسبة للأفقر منه . أنا لست في محاولة لمواساتك أو التخفيف عنك , ولكني أود أن أشكو لك من هؤلاء الذين بمجرد أن منحتهم جنسيتي , كيف بدأوا يخلعون ثياب الآدمية ويضعون مبادئهم على الرف ويودعون أحاسيسهم في الثلاجة , , كيف تغيرت أشكالهم فنمت لهم أذرع كالإخطبوط لتتسابق الى تخاطف الصفقات والأرباح , , كيف نبتت لهم أرجل اضافية ليمشوا بها على دروب ملتوية , وأخرى ليركلوا بها كل من يقف في طريقهم وغيرها ليدوسوا بها على رقاب الفقراء . هناك مثل يوناني يقول : " حديثو النعمة تظل أحشاؤهم مملوءة فقراً " . صدق اليونانيون , فحديث النعمة يعرض لك ملامح ماضيه في كل سلوكياته. أرأيت أننا مترابطان في أغلب الأحيان ؟
هل تفهمني أيها الفقر ؟ وهل تصدق أنك لا تعاني وحدك في هذا الزمان ؟ أو تذكر المقولة الشهيرة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ( لو كان الفقر رجلاً لقتلته ) ؟ أجزم لك , لو أن علياً خرج من لحده اليوم واطّلع على أحوالنا , لقال أيضا : ولو كان الغنى رجلا لقتلته , فلا تبتئس يا صاحبي ولا تكفر بعدل السماء ,, فالفقير المحروم قد يفتن بقلة المال فيكفر, يسرق أو يقتل ,,, والغني أيضاً قد يفتن بكثرة المال فيفسق ويضّل
أعرف أنه احساس ٌ قاتل .. شكوى وتذمر أمام كل هذه النعمة التي خصّني بها المولى , لكني ألتمس العذر لمشاعري وأنا أرى السعادة تتخلى عني ومن المفترض أن تلازمني , وبهذا نتساوى معاً . يخيل إليّ وأنت تقرأ سطوري هذه أني أرى وجهك البائس ,, وأني ألمح امتعاضك وعدم اقتناعك بما أقول , صدقّني , أبنائي ليسوا الأفضل ... خذ مثلاً في حالات نشوب الحروب , من هم أكثر الناس جبناً ؟ من هم أكثر الناس هرباً ؟
إنهم الأغنياء , متمسكون بالحياة الى آخر رمق , خائفون على ثرواتهم وأموالهم الى آخر لحظة . ومن هم الباقون ؟ الفقراء.. الذين لا يخشون الموت , فالحياة ليست الأفضل بالنسبة لهم طالما ليس لديهم ما يخسرونه. هل تفهمني أيها الفقر ؟ إن يدي لا تريد أن تتوقف عن الكتابة , فما زال لديّ الكثير لأخبرك به , أيها الجائع على الدوام , أعترف لك أنا الذي لا يتجرأ الجوع على معدتي , أعترف لك وأنا مازلت بكامل قواي العقلية , أن التخمة أشد فتكاً من الجوع أحياناً , واذا كان أبناؤك يمرضون من قلة الغذاء , فإن أبنائي تصيبهم أمراضاً أشد خطراً نتيجة ادخال الطعام على الطعام .. الصحي وغير الصحي , المعلب والمسبق الصنع والمجمد والمغلف والمقدد والمستورد والمحضر بالسرعة القصوى
أدرك يا صاحبي أن مئات الأطباق الشهية تطلبها نفسك وتشتهيها لكنك تمتنع عنها لأنك لا تملك ثمنها , وهي نفس الأطباق التي تطلبها نفس بعض الأغنياء ويتمنون لقمة واحدة منها لكنهم يمتنعون عنها إما للحفاظ على قوامهم ورشاقتهم , أو هم محرومون منها بأمر الطبيب
أحلم أيها الفقر ..... وأنا الذي أستطيع تحقيق كثيرٍ من أحلامي ..... أحلم أن أجلس معك يوماً الى نفس الطاولة , متخلياً عن كل مظاهر الترف , وأمد يدي الى جيبي وحسابي المصرفي خلسةً , وأهبك مما وهبني الله (امتحاناً ) كي لا أضطرك الى مد كفك الى التسول ... ولكي نمحو معاً المفاهيم الموروثة الخاطئة ونثبت أن الثراء الفكري والغنى الانساني والأخلاقي هو الثروة الحقيقية , وأن نشرب نخب العدالة الانسانية ، قائلاً لك: كاسك يافقر