المرتشي هو من قبل استفادة مادية مقابل قيامه بواجبه الوظيفي أما الرشوة الملعونة براشيها ومرتشيها والوسيط بينهما في أدبياتنا وثقافتنا وعقائدنا فلها أسماء مختلفة تبدأ من الإكرامية إلى ثمن فنجان القهوة إلى مصروف الجيب إلى الهدية متبوعة بعبارة "والرسول قبل الهدية "
وتسمى التزييت في بعض الدول ويستمد هذا المعنى من قدرة الزيت على تحريك المعاملة بسهولة من مكتب إلى مكتب أخر وإذا ما بحثنا في أسباب الرشوة لتبين أنها وإن اختلفت أسبابها بدأت غالباً نتيجة الحاجة بالفرق بين الدخل والمصروف , الدخل الذي كان يقتصر على راتب الموظف وانتقل إلى راتب الموظف ودخله من العمل المسائي ثم صار نتيجة الحاجة واختلاف النظرة الاجتماعية لعمل المرأة إلى راتب الموظف وراتب زوجته والدخل الإضافي الناتج عن العمل المسائي والمصروف المتزايد تبعاً لغلاء المعيشة والتضخم الاقتصادي وزيادة المتطلبات وانتقال الكثير من هذه المتطلبات من فئة الرفاهية إلى فئة الضرورية كالدروس الخصوصية والروضة والتعليم الخاص والموازي .
وبداية كان الموظف يبرر لنفسه الاستفادة لسد هذه الثغرة بين الدخل والمصروف وبعد ذلك ونتيجة تراجع المستوى الأخلاقي وانعدام الرقابة وبروز الدور الأساسي لقدرة المال على تغيير الحقائق بغض النظر عن طريقة الحصول عليه أصبحت الرشوة ثقافة لها معانيها ومدلولاتها وطرقها وقواعدها ولربما وصلت في بعض المراحل لتكون لها مدارسها المختلفة فهناك على سبيل المثال لا الحصر:
مدرسة التلميح حيث يقوم الموظف بالتلميح للمواطن بأن معاملته غير صحيحة ولكن يمكن تمريقها أو يقول المشرف للمتعهد إن تنفيذك سيئ ولكن يمكن التغاضي عن عيوبه وحسب فهم المواطن أو المتعهد وفهلويته .
مدرسة التصريح حيث يقول الموظف للمواطن بصراحة " أخي معاملتك ما يتمشي إذا ما دفعت مبلغ كذا " أو يقول المشرف للمتعهد "أخي بدي مبلغ كذا لمشيلك الكشف أو لإحسبلك هيك أو لأقبل هذا العمل المخالف للشروط الفنية " وحيث أن المواطن أو المتعهد هو الطرف الأضعف في هذه المعادلة فليس أمامه إلا الدفع خاصة وأن التجربة أثبتت بما لا يقبل الشك أن الشكاوي لا تفيد ولا تنفع وأن الضغط بالقانون يعقد الأمور ويجعل حلها شبه مستحيل بوجود الثغرات الكثيرة به والقدرة الكبيرة على تأويله بما يخدم وأحياناً بما يضر.
المدرسة الحديثة فهي تقوم على اللجوء إلى مكاتب السمسرة أو الوساطة وتعقيب المعاملات التي تلعب دوراً مهماً في العلاقة بين المواطن والموظف أو بين المشرف والمتعهد بما يحفظ كرامة المواطن بتجنيبه مواقف التلميح أو التصريح ويضمن تسيير معاملته أو قبول عمله بدون جلده بسياط التعابير المتعارف عليها "ارجع بكرى " و"ما بيمشي الحال" و"معاملتك ناقصة" و"جيب طوابع" و"مانك شايفني عم اشتغل" و "أنا ما بمشي هيك معاملة أو كشف لو على قطع رقبتي" و "روح عالمكتب الثاني" و "بتاخد وقت " و "شو ما عندي غيرك " والكثير الكثير من التعابير التي تستخدم لتبين أهمية الموظف والمشرف ووضاعة المواطن والمتعهد .
ولا بد هنا من الاعتراف بوجود متمكنين على مستوى عالي من التقنية في كل مدرسة من هذه المدارس بحيث لا توجد مشكلة ليس لها حل والطريف عدم وجود معاهد حتى تاريخه تقوم على تدريس هذه التقنيات يكون من بين مناهجها مثلا "أصول التلميح " و " كيفية التصريح "والأطرف عدم وجود المؤلفات التي تقوم بنشر الخبرات عن طريق الكتب الثقافية ككتاب "تعلم الرشوة من دون معلم " .
الصدمة الحضارية
من عاشر الموظف حتى السبعينات وبداية الثمانينات عندما كان الراتب يسمح له بالعيش بكرامة وكان يستطيع التوفير من راتبه ويستطيع بما قام بتوفيره بعد سنوات قليلة من الوظيفة شراء منزل أو شراء قطعة ارض ويقوم ببنائها على مراحل وبالتقسيط من الراتب وحينها لم يكن من متطلبات الحياة شراء السيارات الفخمة والبيت والمزرعة وشاليهه على البحر و الثياب من الماركات الأجنبية إضافة إلى الميك أب والبدي كير و المدرس الخصوصي والروضة عدا عن الدورات والمدارس الخاصة وكان من دخله الذي يقتصر على راتبه يستطيع تعليم أبنائه حتى في الجامعة ويساعد أهله وإخوته وحينها كان مبعث سعادته أنه لم يرتش يوماً ولم يدخل جيبه قرش حرام وأنه أنهى وظيفته وهو يحلل ويحرم وكان المرتشي حينها يخجل من كونه مرتش ويدفع ضريبة ما يجمعه من الرشوة بأن لا يشغل أي منصب فصفة غير نظيف اليد تعني القضاء على أي طموح وظيفي فمن يستطيع في ذلك الزمن ترشيحه لاستلام أي منصب مهما كان صغيرا وهو الوضيع في عيون الآخرين نظراته خانعة وذليلة وهو المنبوذ الذي لا ترد له تحية ولا يقبل منه هدية ولا يدعى إلى مناسبة ولا يزار في مناسبة .
ودهسنا التطور وقضى فيما قضى بمتطلباته المحملة بالرفاهية وعاداته القائمة على النظرة المادية من خلال المصالح الشخصية على قيمنا وأخلاقنا وحتى على خوفنا من الخالق سبحانه وتعالى وحولنا من أسياد تحكمنا إنسانيتنا وقيمنا إلى عبيد للمال والبذخ والرفاهية كل هذا بصدمة حضارية لم نفق من تأثيراتها إلا بعد أن سيطرت على عقولنا سيطرتها على ضمائرنا وكانت السبب الأول وراء انهيار منظومتنا الأخلاقية .
فما هي أسباب انخفاض عتبة ممانعتنا للرشوة :
لقد كان الفراغ الأخلاقي والقيمي أهم أسباب انحدارنا في مستنقعات الرشوة فعندما كانت منظموتنا القيمية ذات الخلفية الدينية أو التربوية تستطيع بث روح المقاومة والصمود في وجه المغريات الصغيرة حيث لم يكن هناك فجوة بين من يملك الكثير ومن يملك القليل بسبب أن تأمين مستلزمات الحياة من مأكل وملبس ومسكن لا يتطلب الكثير ولا معنى للتباهي والتفاخر فلماذا يرتشي من يستطيع الدفع لتأمين قوت عياله وما معنى أن يمتلك الكثير من الثياب طالما أن المطلوب هو ستر البدن وليس التباهي بالحرير والديباج وما معنى تكديس الأموال طالما أن مستلزمات الحياة يمكن تأمينها بالقليل عدا عن الدخول في صدام أخلاقي وقيمي مع المجتمع ككل بدء من الأهل والمقربين وانتهاء بالسلطة .
أما مع ما جلبه قطار التطور من رفاهية وحاجة إلى المال توسعت الفجوة بين من يملك ومن لا يملك وفرضت متطلبات الحياة الحديثة ضرورة البحث عن مصادر للتمويل ولكي نكون متجردين في حكمنا فلربما قد حاول الكثيرين تأمين هذا الدخل بشكل مشروع أولا عن طريق تأمين دخل إضافي من عمل آخر أو تأمين راتب آخر بدخول المرأة إلى ميادين العمل ولكن نتيجة عجز كل هذه الدخول مجتمعة عن تأمين المتطلبات وتراجع الدور القيمي لعجزه عن الصمود في وجه المغريات الكبيرة التي يمكن تأمينها بالرشوة بيسر وسهولة ولا يمكن ولو بعد مئات السنين تأمينها بالطرق المشروعة تخاذلت القيم الهشة مع الضروريات والمتطلبات المزعومة وشكلت التيار الأقوى فسبح الكثيرون مع هذا التيار وأصبحت نظرات الذل والمهان نظرات جرأة عندما تم اختزال الإنسان بما يملك لا بما يعلم ولا بما هي أخلاقياته .
فمن هم أولئك المرتشين :
• متدين أعمته الرشوة فلم يعد يرى فيها مخالفة لعقيدته وتقواه وإنها وإن كانت خطأ فالله يغفرها نتيجة الحاجة والمتطلبات الكثيرة .
• جاهل همه تأمين قوة عياله ومستلزمات حياة أسرته المبررة وغير المبررة من دون أي حساب لتأثير ذلك على فساد الوطن والضمير.
• مبتاغ يعنيه أن يركب سيارة فخمة ويرتدي ثياب عالموضة ونظارات آخر صرعة وموبايل أحدث موديل ويتباهى كالطاووس وليحيا من يحيا وليمت من يمت طالما أن حياة الآخرين لا يمكن التباهي بها .
• جشع حوله طمعه إلى فقير رغم ما يمتلك من القصور والفيلات والسيارات والخدم والحشم وليس ذنبه أن الآخرين لا يجدون ما يأكلون.
• متذاك يسخر القانون لمصلحة جيبه لم يسعفه ذكائه بتأثير رشوته على خزينة الوطن واقتصاده وأكثر ما يزعجه غباء الشرفاء وتبجحهم بالنزاهة والأخلاق .
• مدع يحسب أن الخالق سبحانه وتعالى لا يرى رشوته فكيف يستطيع البشر فهو أبداً يتشدق بالحديث عن الأخلاق والنزاهة والإخلاص .
• مفسد لا يهنئ له عيش إذا لم يستطيع التدمير والفساد في النفوس قبل الخيرات .
فما هي الحلول :
1. لا بد أولا من اجتثاث المفسدين سواء كانوا مدعين أو متذاكين أو متباهين أو جاهلين فأولئك لا أمل في عودتهم إلى جادة الصلاح وسيعملون على إجهاض أي محاولة للإصلاح .
2. رفع مستوى الوعي الجماهيري بتأثيرات الرشوة السلبية على مقدرات الوطن ونفوس أبنائه .
3. غرس أفكار الشرف والأمانة والإخلاص في العمل في المناهج المدرسية .
4. سد الفجوة بين الدخل والمصروف برفع مستوى الدخول إلى المستوى المطلوب للمعيشة .
5. سد الثغرات في القوانين والأنظمة بما يضمن عدم استغلالها من قبل المرتشين .
الارتقاء بالوعي الجماهيري إلى المستوى الحضاري وعدم الانغلاق والتقوقع ثم الانفتاح المفاجئ مما يسبب صدمة حضارية ويتم ذلك بالتفاعل مع الحضارات والانفتاح على منجزاتها بالتوازي مع التطور المادي والقيمي والقانوني لها فيتم تقبل هذه المنجزات بشكل تدريجي ومناسب لقدرات المواطن ودخله .