news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
هذه المرأة...أدّبني حبُّها..!! ... بقلم : د.هالة هاني صوفي
syria-news image

نشأتُ في بيئة شرقيّة ذكوريّة بامتياز..فالرجل فيها أفضل من المرأة قطعاً ودون مناقشة بل إنّ هذا التميّز كان من المسلّمات التي لا تحتاج إلى برهان.


الرجل أذكى من المرأة، وأقدر منها على إنجاز المهام..وأصبر على تحمل المشاق، بل هو أفضل في كل شيء.!! وكانت الأدلة التي بحوزتي عن تفوقي أنا الذكر أكثر من تحصى ولذلك كنت لا أتلكأ في استحضارها كلّ مرة أحاور فيها امرأة فأمطرها بوابل من هذه البراهين الجاهزة بحيث لا تقوَ أية امرأة على مجرد التفكير بالرد..! وكنتُ أشعر بسعادة عجيبة وأنا أمارس تفوّقي وألمح شعورَ الانكسار والهزيمة على الوجوه الناعمة .! وكانت خيبة الأمل في أعين النساء تدعمُ غروري وشعوري بالتفوق ..!

 

 وكنت فوق ذلك شاباً وسيماً، وكانت وسامتي شبكتي التي أوقع بها النساء دون عناء، وأصدقكم القول لم تضع الأقدارُ في طريقي امرأة تستطيع أن تقف في وجهي، وتتحدّاني ولا أخفيكم فأنا لم أقابل بعدُ المتميزةَ الذكيّة..اللمّاحة اللبيبة.. المثقفة الأريبة..المتفهّمة الواعية ..المستوعبة المدركة..! لا أدري لماذا كلّ اللواتي أعرفهن تافهات مملّات! ثيابٌ وألوانٌ وصباغ ..مع كثير من لين الكلمات..وسخف العبارات..ومحاولات قليلة بائسة لإدراك المستجدات.

وجاءت سامية...رحماك أيّها القلب كفاك تعصف بصدري عندما أذكرُها.

امرأة وضعها القدرُ في طريقي ليؤدّبني..ليكسر صلفي وغروري..ليحطّم أسطورة تفوّقي على النساء..امرأة اخترق سهمُ ذكائها عقلي، وسيفُ عشقِها قلبي، وأصابني حبُّها في صميم الصميم فأوجعني.

 

 امرأة غيّرتْ عالمي، بدّلتْ مفرداتي، نسفتْ كلماتي، محتْ ذكرياتي، قلّبتْ أفكاري ومعتقداتي ! يا إلهي!.. بأية عبقريّة أعادتْ صناعتي..؟ كيف أصفُ لكم سحرها.. لهفتها.. فتنتها.. عبارتها..؟ كيف تنطق الكلمات، وبأي عبق تعطّر حروفها..؟

 

تعرّفتُ عليها في المعرض السنوي المشترك (حرف ولون) لا أدري لماذا لفتني شالها الأخضر فكنتُ ألاحقه كأنه طوق نجاة ....كأنه سر حياة .... كانت تقف أمام كل لوحة كأنها تحادثها، تهمس بسرها، ترمي بشذرات أنوثتها فيتدفق النهرُ.. ويموج البحرُ.. ويضجّ السحرُ، يومها بالذات كتبت القصيدة الخضراء:

 

يا ذاتَ الشال الأخضر

تمشي وفي خطواتها نغمٌ يتبعثر..

يا ذاتَ الشال الأخضر

تحكي وفي كلماتها ألماس يتكسَّر..

يا ذاتَ الشال الأخضر

 

أنا رجل البلاغة

فكيف أمامك أعثر..!

مدّي يدك..أريد أن أقبّل الورد الأحمر..

مدّي يدك..أريد أن أكتشفَ بحار المرمر..

مدّي يدك..غيّري تاريخ ميلادي

فأنا معك أشعر أني طفل يكبر

يا ملكةَ القرن الواحد والعشرين

 

يا ذاتَ الخد الأقمر

يا طيباً من عبق الياسمين

وعطراً بين الصنوبر والزعتر

حتى روحك يا جميلتي لونها أخضر

وسحرك أخضر

وقلبك أخضر

 

وفي عينيك يعبد اللهَ

لؤلؤ أخضر..

يكفيني فخراً أني أحببتكِ

ووضعت قلبي بين يديك

يا امرأة لن تتكرر..لن تتكرر..!

 

قالت لي مرة: إننا لا نستطيع أن ندرك أسرار الوجود ..لأن أجسادنا قيود .. وهذه الروح التي تشاغبُ في أجسادنا لا تؤمن بالحدود.. فمن أين لنا أن نعرفَ لغة الأشجار وهي تتسامرُ عند غروب الشمس، ومن أين لنا أن ندركَ عشقَ السنابل وهي تتغازلُ في همس الهمس! أو كيف تذوبُ روحٌ في روح بلا جسد ولا لمس.!!

 

كانت (سامية) سامية إلى أبعد الحدود، ولولا أنّ الله سكبَ روحها في جسد لحسبتُ أنّها من ملائكة الأزل أو الأبد!!

أحبّها أو أحببتها لا يهم فالزمن عندما أكون معها لا يعنيني..الوقت معها مختلف..نبض الدهر مختلف..وكل زمان الدنيا عندما تكون معي لا يكفيني.

كانت دائماً تتحدث عن معانٍ جليلة وتقول من يطلب الحقيقة لابد أن يعاني ليصل إليها..فهي عالية غالية..ولا حقيقة من غير جهد وبحث، ومشقة وعناء، ولقد كرّمنا الله تعالى بالعقل لا لنتصرف كالببغاوات، وعجيب ذلك الذي يؤسس عقائده وقيمه من كل ما يقرأ أو يسمع. يجب أن نختار، يجب أن ننتقي، أن نبحثَ عن الأدلّة، فالإكثار شيء والجودة شيء آخر تماماً، وحده البحث الجاد يوصلك إلى الطريق القويم فلا توجد حقائق مغلفة بالشرائط الملونة كالهدايا..نفكها لنستمتع بجمالها!

 

تجادلنا وتحاورنا، كانت قادرة على أن تمحو ما تشاء من أفكاري فأستسلم لمنطقية عقلها ولسلطة ذكائها.

قلت لها: ما رأيك بحقيقة أن الرجل لا يشبه المرأة في شيء، فهي عاطفية ضعيفة،وخائفة مستكينة..و..... قاطعتني بهدوء وكأنها تعاتبني: يبدو أن حقائقك معلّبة! من قال لك إنّ الرجل لا يشبه المرأة في شيء؟! إنّ المرأة والرجل مخلوقان متشابهان تماماً ولكنهما مختلفان عند توزيع الطاقات، الرجل محتاج إلى عقل لا تغلبه العاطفة، والمرأة مُحتاجة إلى عاطفة لا تلغي العقل لأن لكل واحد منهما وظيفة هامة في الوجود.

 

 نعم قد توجد نساء بهذه المواصفات من الضعف والاستكانة ولكن وجودهنّ ليس قاعدة تقاس عليها كل النساء، هذا جور وغبن، ولم تكن الحقيقة ظالمة يوماً ما بل أكثر من ذلك إن مخلوقات الوجود كلها مثنى مثنى فالليل والنهار مثلاً ( الظلمة والنور) متكاملان، ففي الظلام سكونٌ وفي النور حركة وهما متقابلان في نظام الكون وحركة الحياة، فلليل مهمة وللنهار مهمة، والمهمتان متوافقتان منسجمتان مع طبيعة الإنسان نفسه الذي خُلق الزمن من أجله. ولو حاولنا التسوية بين الليل والنهار لزالت الحكمة من وجودهما معاً.

 

 وكذلك الجنس البشري ينقسم إلى نوعين، لكلّ واحد منهما وظيفة، فليست المسألة مسألة تفضيل بل خواص وخصائص بحيث لو سوينا أحدهما بالآخر لزالت الحكمة من التنوع. ثم استمرت في حوارها، كانت تتحدث بهدوء وثقة، لا يضنيها استحضار الأفكار ولا صياغة العبارات، كانت تتحدث كأنها تتنفس، وربما هذا سرها في قدرتها على الإقناع والتغير، فلقد علمتني هذه المرأة أن الذي يوقن بشيء ويعتقد به ويصرف الجهد من أجله لا بد وأن يؤمن به ويتشرب به فيصبح جزءاً منه ويكون جذب الآخر إلى مداره سهلاً لأن جاذبية الموضوع أقوى من أن تقاوم بكل أدلته وبراهينه وألقه وجماله.

 

وهنا قفزتْ إلى ذهني فكرة (القوامة) فقلت وكأنني ألقي ببرهان أكيد لا يشق له غبار عن أفضلية الرجال: (الرجال قوّامون على النساء) أليس كذلك! ابتسمتْ بعذوبة وقالت إن بعضاً من مشاكلنا يكمنُ في اجتزاء أدلتنا أي أننا نأخذ ما يعجبنا ونحتفظ بما يوافق أهواءنا وندع بقية الحقيقة فندخل في متاهات الجدل العقيم، كان يتوجب عليك أن تكمل الآية على الأقل لغوياً (الرجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) أي أن القوامة لها سبب وليست مطلقة، قوامون (بما) أي قوّامون (بسبب).

 

ثم نظرت إليّ بابتسامة ماكرة وقالت: اعلم أيّها الرجل وأعلِم غيرك من الرجال أن القوامة ليست تملك واستبداد..بل ليست تكريم وتفضيل، الحقيقة غير ذلك تماماً فالإنسان القائم على أي أمر هو الذي يجعل كل حركته من أجله حتى أن القرآن الكريم أعطاك معنى القوامة في أكثر من موضع: (أفمن هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت). فالقيام ضدّ القعود، والرجال قوّامون أي متحركون في الحياة من أجل النساء لكفالتهنّ وتوفير مطالبهنّ وأسباب السعادة لهنّ ولأولادهنّ وخدمتهنّ دون مقابل فهذا تكريم للنساء وليس تفضيل للرجال وحتى عندما قال الله تعالى: (بما فضل الله بعضهم على بعض) لم تحدد الآية نوعية التفضيل وذلك لورود كلمة بعض، والذي يدعم هذا الكلام آية كريمة أخرى تقول مخاطبة الرجال والنساء معاً: (وائتمروا بينكم بمعروف) أي مرة يكون الرجل أميراً على المرأة فيسوسها في مجال اختصاصه ومرة تكون أميرة عليه فتسوسه في مجال اختصاصها، بل أكثر من ذلك، إن للمرأة استقلالاً ذاتياً في كل شيء حتى في ذمتها المالية، إذاً هي ليست تابعاً للرجل ولا ظلاً له كما يزعمون إذ كيف تكون تابعاً له وهي المكلفة الأولى بصناعة الرجال والأبطال.                                       

 

أصدقكم القول كانت تهزمني في كل مرة أخوض معها حواراً أو جدالاً، ولا أدري لما كانت هزيمتي على يديها لذيذة، احتلتْ سامية تفكيري بكل معنى الكلمة، ونشرتْ جيوشَ فتوحاتها في كل خلية عصبيّة بجسدي !! فلأول مرة في حياتي أنظر بقلبي وأجيب بعيني وأفهم بروحي! ألم أقل لكم كيف ستعجبني أية امرأة بعدها؟ فأنا لم أعد أحفل بأنثى غيرها.

 

مرّة سألتها عن الحب فقالت: الحب مشكلة العقل التي لا تحل ولكنه حقيقة القلب الكبرى، الحب أضعف المخلوقات وأقواها، تراه رقيقاً مختبئاً في طرفٍ ناعس، في رجفة يدٍ عاشقة، في نبض أغنية شجيّة ينشدها القلب الواله في بسمةٍ مومضة ساحرة ثم يخرج فجأة عملاقاً عظيماً كجني المصباح، وليس كالحب (إن لم يكن في حرام) مطهّراً للنفوس ومصلحاً للأمم وحافزاً إلى الفضائل..الحب ألم وسعادة تماماً كما يبكي الغيمُ حزناً على الأرض العطشى فتضحك بزهر الربيع.

انتهى المعرض الذي دام أسبوعين وذهبت سامية، كنت مأخوذاً بها ومنشغلاً معها ومشدوهاً بأفكارها لدرجة أنني لم أسألها شيئاً عن حياتها الشخصية، كلّ ما أعرفه عنها أنها تدرّس في كلية الفلسفة.

ذلك المساء عندما اجتاحني الشوق إليها..وطحنني تفكيري بها، وكاد يرديني تعلقي بها، أدركتُ أنني أدمنتها فكتبتُ لها:

 

أحبك أنتِ..وأريدك أنتِ

فمعك أحس أني رجل لا يقهر

 

يا من أخاف لفظ اسمها على شفاهي

حتى لا يتكدر!

يا من أخاف على حروفه وحروفي بذكرها

ترتعش وتتعثر..!

يا من أخشى على رقة ورودها

من حرارة شفاهٍ بعبيرها تتعطر

 

يا من خلقها الله من نسيج أجنحة الفراشات

أخشى إن ضممتها تتكسر..!

ارحميني من غبائي

فقد كنتُ أظن النساء ألعاباً من السكر

وكنتُ أحسَب المرأة دمية

وتمثالاً بارداً من المرمر!

حرّريني من قيودي

 

فما اشتهيت إلا على يديك أتحرر

علّميني معنى الحرية

وأنا مَنْ حَسِبَ النساءَ

قيوداً لا تتكسّر

حبيبتي لوحةُ عمري باهتة

امسحي عنها اللونَ الأصفر..

افرشيها بالشوق الأحمر والعشق الأزرق..

 

والفرح الأخضر..

مشّطي لي شعري

رتّبي سريري

عطّري جسدي الأسمر

احضنيني..

ضمّيني..

أطعميني كما تطعم صغارها طيورُ الورور

 

قولي أنك لي..

وأنني رجلك الأوحد..

وبطلك الأقدر

لا تهربي من دربي

علّميني معنى التوبة

كي لا أبقى طوال عمري

ضائعاً أتحسّر

.......

.......

.......

 

سألتُ طالباً في كلية الفلسفة أين مكتب الأستاذة سامية؟ لا أدري لماذا نظر إليّ باستغراب تراه ضبطني هو الآخر متلبّساً بحبها! تصنّعتُ الوقارَ بانتظار الإجابة، فأشار الطالبُ إلى نهاية الممر قائلاً هذا مكتبها، سرتُ في الممر كأنني أقطع الصحارى والقفار، آه ما أطول الطريق إليها، وقفتُ أمام بابٍ توجته لوحة نحاسية        (د. سامية نور الدين) وكأنني عثرتُ على كنز أتراه مكتبها؟ أتراها هنا؟ لم تقو أصابعي على أكثر من طرقة خفيفة على الباب ثم فتحته، لا أحد في المكتب، ولكن لا أدري لماذا شعرتُ أنها غرفتها، أنها أشياؤها، أنه شذاها وأوراقها.. وكم كانت فرحتي عظيمة عندما وجدتُ على المكتب دفترَها الأخضر الذي ما كان يفارقها أثناء المعرض، لقد وجدتها، وجدتُ روحي الضائعة مني، وارتمتْ أشلاءُ نفسي على المقعد الجلدي الأسود مستكيناً ضعيفاً أنتظرها كأنني جندي مملوكي ينتظرُ ملكتَه شجرة الدر، أحسستُ أنني أنطونيو المكبّل بسحر كليوباترا... جلستُ بانتظار أستاذتي ومعلمة روحي..!!

2011-03-22
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد