news edu var comp
syria
syria.jpg
مساهمات القراء
عودة إلى الصفحة الرئيسية
 
الأرشيف
أرشيف المساهمات القديمة
قصص قصيرة
من أجل عينيك يا مصر... بقلم : د.هالة هاني صوفي
syria-news image

أمسكتُ كتابه بخشوع حذَرَ أن أزعجَ الكلمات الرقيقة الراقية، فرحتُ، خفق قلبي بشدة، وتألق نور عجيب في عينيَّ.


كانت هذه طقوسي في كل مرة أقرأ فيها كتاباً جديداً لمحمود الرشداني، ذلك الأديب المصري المبدع الذي أحببتُ كتاباته  منذ زمن بعيد، عشقتُ كلماته، بل حفظتُ بعضها عن ظهر قلب وكأنها تعويذة!! :(المرأة مخلوق شفاف يسبح في سماء  الروح يلفه الضباب، متألقاً بعيداً مقدساً كالحلم كالسراب..)، (أين أنتِ، لا تخذلي الوجود الذي تزين لأجلك بالروعة  والدهشة، بالأصفر والأحمر، ماذا تقولين لكائناته .. إنْ لم يكن هذا الذي تقولينه سحراً فماذا تهمسين للصخر الأسمر  فيتحول إلى مرج أخضر؟!)، (على رسلكم لا تزعجوا هذه الرقيقة، المرأة، لا تكلفوها فوق طاقتها، هي مخلوق أوجده الله  الحكيم برهاناً على عظمة إبداعه)..

 

(محمود الرشداني): كنتُ أترنم باسمه وكأني أغنيه عندما أتحدث عنه، ولطالما رسمتُ اسمه في زوايا أوراقي وكأني  أباركها بحروفه!!

وأخيراً، رضيتْ عني السماء، سأرى محمود الرشداني في دمشق الفيحاء!! هذا ما قلته لصديقتي وأنا أحدّق غير مصدقة  في بطاقة دعوة أنيقة لحضور محاضرة له، وأخيراً سأراه، سأرى ذلك الرجل الذي صار لي خمس سنوات وأنا أعرفه  على الورق!!

 

وجاء يوم المحاضرة، عفوكم ... يوم العيد!! فقد كنت فرحة جداً تقفز شعاعات الفرح من حولي كطفلات عذبات رائعات  ينتظرن هدايا العيد، (جاء محمود الرشداني)... هكذا تهامس كل من في القاعة، طربتُ لأصواتهم كأنهم يعلنون بها عن  وصول نبيّ!

دخل محمود، لم يكن وحيداً دخل معه الحُسْن المصري والبهاء والرقة وعصافير الربيع..! أشرقتْ ابتسامته على الجميع  وغمرني دفؤها وشعرتُ بلون غريب من الأمان يسري في أوصالي..

 

وبدأ يعزف بالكلمات..يلقيها بإبداع لقد كانت أقواله فوق احتمال القلوب، وبلاغته فوق احتمال اللغة... لقد كان أسطورياً!

كانت كلماته كشلالات من الورود الزرقاء تصب متدفقة في بحيرة لازوردية أما أنا ...يا أنا... أحسستُ أنني أحلم وأنني  انفصلتُ عن الدنيا أسبح فوق غيمات بعيدة تنحسر عنها موجات من البنفسجي الرائع ليحل محلها زهري بديع يتلألأ..!

 

بعد المحاضرة، تحول الجميع إلى فراشات ملونة تحملها نسائم معطرة رشها علينا محمود الرشداني ليغرينا بالطواف حول  قنديل روحه..!

أُعلن عن حفلة صغيرة على شرف الأديب الكبير محمود الرشداني كي يوزع بعض أعماله على الحضور وانشغل كل  واحد بحديث مع الآخر بعد أن اكتشف أشياء جديدة تسكن في قلبه وقد أعطانا محمود الرشداني قبسات من نجوم إبداعه..!

 

اتجه محمود الرشداني نحوي ... نعم نحوي أنا .. وكأنه ضبط كلماتِه في عيوني متلبسة بها ..أو انجذب إلى عطرها يفوح  مني..!!

-         وأنت يا آنسة أليس لديك شيءٌ لتقولينه (عني)؟

-         نعم يا أستاذي الكريم لدي أشياء لأقولها (لك) وليس (عنك) (فعنك) هذه مرتبة شرفٍ عظيمة صعبة الإدراك..!! بالفعل.. لقد كنت رائعاً حقاً كما توقعتك.

من جديد أشرقتْ شمس ابتسامته فزادتْ نارَ وجنتي تأجّجاً، فردّ بذكاء وكأنه يترنم بها (كما توقعتكَ؟؟)..!! ثم تابع بسؤال:  منذ متى وأنت تقرئين لي؟

-         أنا من الشغوفات بكتاباتك، إنها أكثر من متميزة ذكية صادقة، إنسانية عذبة..وأمام كل هذا الجمال يصبح مفهوم  الزمن دون جدوى، ولا يهم منذ متى أقرأ لك: بل لماذا أقرأ لك؟!

 

-         على رسلك فأنا لست (شكسبير) على أية حال!!

-         المقارنة بينكما غير عادلة، أنت تكتبُ بكثير من الرقة والعذوبة، وأنا أَعْجَبُ كيف لا ينفطر كبدُ الأوراق وأنت  تبثّها عواطفَك!!

-         أنت شاعرة!! ومبدعة!!

-         أأعتبر ذلك مديحاً أم مجاملة؟

-         بل إعجاب كبير..

 

سكتتُ، فاجأني جوابه، ولكنه نظر إليّ وكأنه أبٌ يحثُّ طفلته على متابعة تعثرها الجميل وهي تلقي نشيدها لأول مرة.

فقلت: الحقيقة... ما فكرت يوماً أنني سألتقيك يا أستاذ محمود، ولا خطر ببالي طرفة عين أنني سأنتزع إعجابك!!

 

نظر نظرة خضراء أطلتْ بعذوبة من بين أوراق الحور العتيق الذي زرعه بديع السموات والأرض في عينيه وقال: (إنه القدر!!).

وما زالت الجملة تتردد حتى الآن في جنبات نفسي كأنها آتية من عالم آخر فأنا لم أدرك حقيقة ماذا تعني..!!

خطبني محمود الرشداني، كنتُ في حالة سعادة لا توصف، صدقوا إذا قيل لكم أنّ من الفرح لونٌ لا تطاله الكلمات مهما  بلغ جمالها.. كنتُ في حالة سعادة حقيقية.. في حالة نشوة، من يصدق حكايتي؟ إنها أعجب من العجب..!!

 

ازددتُ إعجاباً بمحمود..وبالمناسبة لم أستطع أن أناديه باسمه مجرداً أبداً، بل أقول: أستاذ..يا سيدي الكريم..شيءٌ ما يدفعني إلى ذلك من أعماق أعماقي، وكنت أكتبُ وأريه كتاباتي وأطيرُ فرحاً عندما تعجبه!

وغدا الأستاذ محمود الرشداني أستاذي، وأذكر أنني كتبتُ له  قصيدة عن النيل مما جاء فيها:

 

وتسألني هل ما زالَ النيلُ حبيبي..؟!

وهل ما زالَ النيلُ مُلهمي..؟!

النيلُ يا سيدي كالفاتح العظيم قاهرٌ

يعطي الأوامرَ لجيوش السِّحر: أنْ تقدَّمي..

 

وأنا أسيرةُ النيل فلا تلمْني

إذا كنتُ كلَّ يومٍ في حُضنه أرتمي..!!

النيلُ أبي فلا تلمْ طفلةً

بدفء كفِّ أبيها تحتمي..!!

 

دمشقـيّةٌ أنا لا أنكر هويتي

ولكنْ لزرقة النيل أنتمي!

معه سرِّي ومعي سحرُه وعطرُه وحكايا البلسمِ

النيلُ لونُ البنفسج مع عصير النرجس ببريق الأنجُمِ

 

النيلُ كلامُ الله في أرضه ..

كوثرُ الناس وإنْ شئتَ ممزوجاً بزمزمِ

النيلُ يا سيدي..

عشقي وهواي..أنا هائمة به وهو متيَّمي..!!

 

يومَها قرأها...ثم قال لي: أتصدقين؟ إنني في حالة من الدهشة .. لا أستطيع معها أن أقول شيئاً..! (محمود الرشداني يبحث  عن كلمات) كأنني أحاول وصفَ انبلاج شلالات الفجر العذراء على كوكب آخر..!!

 

وهكذا علمني حبُّ محمود ماذا يعني الحب الحقيقي! علمني حبُّه كيف أكون راقية في مشاعري..سامية في عواطفي.

أصدقكم القول: كنتُ أرى محموداً كأنه ملاكٌ من نور وليس بشراً من طين..وهذا ما آلمني جداً.. لقد أحسستُ أنني لا  أستطيعُ أنْ أتزوج محمود!! كيف تتزوج امرأة من الإنس رجلاً من عالم الملائكة!!! لا أستطيع..لا أستطيع...رددتُها على  مسامعه، وكانت عيناه حزينتين جداً، لا أستطيع أن أغامرَ بفقد أجمل ما مرّ بي في حياتي كلها، ألم أقل لكم لن تصدقوا ما  أقول إنه رجلٌ مختلف.

 

 نظر بتوسل إلى وجهي وقال ولكن لمَ؟ وكنت كالببغاء أردد كلمة لا أستطيع، وأتلعثم ببكائي!! قال بهدوءٍ متأسٍ: كنتُ أعلم  أنك لن تكوني يوماً ما حقيقةً في حياتي، ولكن أرجوكِ لا تبكي، إنّ دموعك تؤلمني، لا بل أتوسّل إليك لا تزعجي الياسمين  الدمشقيّ الذي طالما عشقته، وفكّري ثانيةً قبل أنْ تطلقي على قلبي رصاصة رحمة.

 تركتُ محمود رغماً عني وليس بخاطري، تركته لأني أريد أن يبقى متألقاً متجدداً في قلبي، بل أجمل ما مرّ بي في  حياتي كلها.

 تركته لأنني لا أجرؤ على الاعتداء على زهور القداسة والطهر الرقيقة، تركته لأنني اكتشفتُ أنني لم أحب محموداً لأنه  رجلٌ بل لأنه إنسان.

 

 سافر محمود لوحده، عاد إلى النيل من جديد، حملَ معه يوم ميلادي، ولونَ عينيّ، وضحكتي، ونبضات قلبي، وأوراق  حريرية زرقاء بلون النيل، والآن وبعدَ عشرين عاماً، بُعثتْ هذه الصور من جديد كطائر (الفينيكس) حيث وصل إلى  سمعي صوتٌ من الفردوس إنه صوت محمود الرشداني، مازال عذباً دافئاً رقراقاً، كان ينشدُ قصيدة في حبِّ مصر على  فضائية مصرية هذه القصيدة التي أعطاني إياها يوم الوداع، فخبأتها تحت شغاف القلب كي يستمرَ نبضُه ودفؤه.

من أجل عينيك يا مصر....

 

لا تسلني عن عذوبةِ الشعبِ المصريّ

فلا تشي الوردةُ بأسرارِ العطرِ

رقةٌ وظرفٌ ولطفٌ

وخفةُ ظلٍ بالروحِ تسري

 

ماذا أقولُ لك عن المصريين ..؟

 سحرٌ  ودرٌّ وعطرٌ وحنين

ماذا أقولُ لك عن عاشقِ المصريين ؟!

اللوعةُ واللهفةُ والشوقُ والأنين..!

 

تريدُ أن أحدِّثكَ عن مليكتهم القاهرة..؟

أصيلةٌ متميزةٌ جبارةٌ قادرةٌ

جميلةٌ عذبةٌ طيبةٌ آسرة

كبيرةٌ وديعةٌ فاتنةٌ ساحرة

 

وهل تدري شيئاً عن أميرتهم الإسكندرية..؟

عروسُ بحرٍ تعانقُ زرقةَ الأمواجِ  تعلمها الحرية..!

وإنْ لم تكن عاشقاً

علمتك فنونَ الهوى نسائمُها البحرية ..

 

وآه ثم آه من المحافظة الشرقية

سيرةُ العزة ِوالعنفوان

وحكايا الأرواح العليّة

وجودُ الإنسانِ فيها وكلُّ فنون البشرية

 

فإذ قلتَ الحبَّ 

وجدتَها سطورَه البنفسجية

وإذا قلتَ العشقَ

وجدتَ عندها مفاتيحَه السرمدية

 

 وإذا ذكرتَ الشوقَ   

فذنبُ قتلِك شهيدَ الهوى 

عليها وعليَّ ..

والنيلُ يا سيدي

 

يا لهفة َالقلمِ في يدي

تتسابقُ الكلماتُ في شرفِ وصفِ

ذلكَ الرائعِ الأبدي 

فضةٌ وزرقةٌ ولؤلؤ وذهب

 

وأنغامٌ تسبحُ مع الوردِ

ماءُ الندى

وطعمُ الهوى

وسكرٌ ذابَ في الشهدِ

2011-02-15
أكثر المساهمات قراءة
(خلال آخر ثلاثة أيام)
المزيد